الكتاب : الإيمان معناه وحقيقته لعله لأحمد الخليلي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع
المحاضرة الثانية
الإيمان
معناه و حقيقته
ـ المقدمة .
ـ معنى الإيمان في اللغة والاصطلاح الشرعي .
ـ حقيقة الإيمان في القرآن الكريم والسنة المطهرة .
ـ أقوال العلماء في بيان حقيقة الإيمان .
ـ حديث جبريل - عليه السلام - وحقيقة الإيمان .
ـ جملة التوحيد و التفسير الاعتقادي لها .
ـ طرق إثبات الجملة .
ـ الأسئلة .
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله أحمده و أستعينه واستهديه ، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين .
أما بعد : فقد ذكرت لكم في الدرس السابق بأن الإيمان هو قاعدة العمل ، و أساس الاستقامة ، وينبوع الفضيلة، والآن أنتقل بكم إلى جوهر الإيمان وحقيقته في معنييه اللغوي والشرعي .
معنى الإيمان في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي
الإيمان لغة : بمعنى التصديق (1) ، ومنه قول الله سبحانه وتعالى ـ فيما يحكيه عن أبناء يعقوب عليه السلام ـ: " وما أنت بمؤمن لنا" سورة يوسف / 17، أي بمصدق لنا فيما نقول، وأصله من الأمان (2) ؛لأن السامع عندما يصدق المحدث ءآمنه التكذيب.
والشرع قد حول هذا اللفظ إلى معنى له علاقة بمعناه اللغوي كما حول كثيراً من الألفاظ فأصبحت لها حقائق شرعية، توازي تلك الحقائق اللغوية التي كانت لها من قبل .
ومن ذلك الصلاة فقد حولت من معنى الدعاء (3) إلى هذه العبادة المخصوصة ، و التي يؤديها العبد على هذه الكيفية المعروفة .
ومنها الزكاة ؛ فقد حولها الشرع من معنى النماء ،أو معنى الطهارة (4) ، إلى هذه العبادة المالية الاجتماعية المعروفة .
__________
(1) ـ المعجم الوسيط ج ، ص 28 .
(2) ـ الأمان بمعنى الاطمئنان .
(3) ـ المعجم الوسيط ،ج 1،ص 522 .
(4) ـ المعجم الوسيط ،ج1 ، ص 396 .
(1/1)
ومنها الصوم ؛ فقد حوله الشرع من معناه المعروف ، وهو الإمساك (1) مطلقاً ، إلى هذا الإمساك بهذه الطريقة المخصوصة المعروفة .
كذلك الإيمان ؛ معناه الشرعي ينقسم إلى معنيين :
يطلق الإيمان على التصديق بأركان الإيمان التي جاءت في حديث جبريل عليه السلام ، وهي ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله ) (2) .
ويطلق الإيمان على الاستقامة في العقيدة والاستقامة في العمل ، يعني ذلك أن الإيمان يطلق على العقيدة الصحيحة مع العمل الصالح والقول الصادق .
حقيقة الإيمان في القرآن الكريم والسنة المطهرة
وبهذا ينتفي الإشكال الذي يطرأ على النفس عندما يقرأ الإنسان الآيات القرآنية التي يستوحى منها أن الإيمان هو عقيدة وعمل ، و الآيات التي يستوحى منها أن الإيمان هو مطلق العقيدة .
ـ في القرآن الكريم :
فهناك آيات من كتاب الله سبحانه وتعالى تدل على أن المؤمن من جمع بين العقيدة الصحيحة والعمل الصالح ، وآيات تدل على أن المؤمن هو من آمن بما يجب الإيمان به أي بما يجب التصديق به ، من هذه الآيات :
أولاً : قول الله سبحانه وتعالى في وصف عباده المؤمنين ، عندما وعدهم بالفلاح في سورتهم التي صدرها بهذه الآيات : { قد افلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ، والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } سورة المؤمنون / 1 - 11 .
__________
(1) ـ المعجم الوسيط ،ج1 ،ص 529 .
(2) ـ أخرجه مسلم في صحيحه ، رقم 1 كتاب الإيمان ، وأبو داود في 39 ،كتاب السنة ، باب 16 والترمذي ، في 30 كتاب القدر، باب 10 , 17 ، وابن ماجه ، في مقدمة سننه ، باب 10 ,11.
(1/2)
الله سبحانه وتعالى بين صفات المؤمنين هنا { قد افلح المؤمنون } ، وبين أن الإيمان هو بجانب كونه عقيدة هو عمل أيضا : { الذين هم في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ، والذين هم للزكاة فاعلون } إلى آخر الآيات.
ثانياً : ومن هذه الآيات قول الله سبحانه وتعالى { إنما المؤمنون } ، و" إنما" أداة حصر ، { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } سورة الأنفال / 2 -4 .
ابتدأ أولا الحق سبحانه وتعالى في هذه الآيات بحصر المؤمنين في هذه النوعية من الناس { إنما المؤمنون } ، ثم أكد هذا الحصر بقوله من بعد { أولئك هم المؤمنون حقا } وفي قوله هذا تعريف للمسند والمسند إليه { أولئك هم المؤمنون حقا } المؤمنون هو مسند ، وأولئك مسند إليه ، ووسط بينهما ضمير الفصل ، وتعريف المسند والمسند إليه من دلائل الحصر وتوسيط ضمير الفصل بينهما تؤكد ذلك .
ثاثاً : ومن ذلك أيضا قول الله سبحانه وتعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } سورة الحجرات / 15 .
رابعاً : ومن ذلك نفي الإيمان عمن قتل مؤمنا متعمداً في قوله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } سورة النساء /92 .
وهناك آيات أخرى تدل على خلاف ذلك حسب ظاهرها ؛ منها قول الله سبحانه وتعالى { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } (1) ـ سورة الرعد / 29 ، وقد تكرر ذلك كثيراً في القرآن ؛ عطف العمل الصالح على الإيمان والأصل في المتعاطفين أن يكون بينها تغاير.
ومن ذلك أيضا قول الحق تبارك وتعالى: ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } سورة الأنعام / 82 .
ومن ذلك قوله تعالى :{ وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما } سورة الحجرات / 9 .
(1/3)
وأحسن ما جمع به بين هذه الآيات هو ما قاله العلامة ابن تيميه (1) بأن الآيات التي يذكر فيها الإيمان من غير ذكر للعمل الصالح ؛ فالأيمان فيها بمعنى القول والعمل ، والآيات التي يذكر فيها الإيمان مقروناً بالعمل الصالح ؛ فالأيمان فيها بمعنى العقيدة ، التصديق بأركان الإيمان التي جاء بها حديث جبريل عليه السلام .
وقد سمى الله سبحانه وتعالى العمل الصالح إيمانا في قوله تعالى :{ وما كان الله ليضيع أيمانكم } سورة البقرة / 143 .
أي صلاتكم .
ـ في السنة النبوية المطهرة:
وجاء في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن الإيمان هو عمل بجانب كونه عقيدة فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه الشيخان عنه عليه افضل الصلاة والسلام انه قال ( الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها كلمة لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى من الطريق والحياء شعبة من الإيمان) (2) .
فانظروا كيف جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان يتجزأ إلى شعب ؛ إلى قول لا اله إلا الله ، هذا القول الذي لابد من أن يقترن بعقيدة متمكنة في النفس، وإلا كان نفاقاً إذا لم يكن مقترناً بعقيدة، والى أعمال، حتى الأعمال التي يراها الناس من الأعمال التافهة؛ كإماطة الأذى من الطريق .
__________
(1) ـ احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضري النميري الحراني الدمشقي الحنبلي أبو العباس تقي الدين ابن تيميه ، ولد في حران .
(2) ـ البخاري ج 1 ص 9 ، فتح الباري على صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني ، ج1 ، ص 51 .
(1/4)
الأخلاق من الإيمان : وكذلك الخلق ، جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان ، حيث قال :( والحياء شعبة من الإيمان ) وجاء في رواية لمسلم عنه عليه افضل الصلاة والسلام انه قال : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ) (1) ، وهذا يدل على أن العدد لا يفيد الحصر ، بل جاء في رواية أخرى ( الإيمان مائة شعبة ) (2) ، في هذا ما يدلنا على أن الأعمال الصالحة من أجزاء الإيمان .
محبة الله ورسوله من الإيمان : و يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان من طريق انس - رضي الله عنه - عنه - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) (3) ، في هذا الحديث، ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من مقتضيات الإيمان بالله ورسوله أن يكون الله ورسوله أحب إلى المؤمن مما سواهما .
__________
(1) ـ رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج1 ص 36 ، وبلفظ ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ارفعها لا إله إلا الله ) رواه مسلم في كتاب الإيمان ، رقم 57.
(2) ـ جاء في مسند الإمام الربيع برقم 773 ، وتمامه ( أعظمها قول لا إله إلا الله ، و أدناها إماطة الأذى من الطريق ) .
(3) ـ رواه البخاري في صحيحه ، ج1 ، ص 10 ، ص 12 ، ج9 ، ص 25.
(1/5)
وجاء في حديث آخر أخرجه الشيخان أيضا عن انس - رضي الله عنه - انه - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون احب إليه من والده وولده والناس أجمعين) (1) ، وفي رواية أخرى ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون احب إليه من والده وولده ) (2) .
والمحبة تقتضي متابعة المحبوب ، فإذا كان الإنسان يحب أحدا من الناس فانه كثيراً ما يسارع في هواه ولو كان ذلك على حساب مصلحة نفسه ، فإذا محبة الله تقتضي المسارعة في طاعة الله والى رضوان الله ولو كان ذلك على حساب ما يراه لعبد المؤمن مصلحة لنفسه في هذه الدنيا العاجلة ، ولا تكون مصلحة للإنسان في مخالفة أمر الله تعالى أبدا ، ومحبة الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إنما كانتا من الإيمان ؛ لأن من شأن الإنسان أن يحب ويعظم ويجل عظماء الخلق ، سواء أفادوه أو لم يفيدوه ، فكم من إنسان يعجب بأحد بسبب عمق فكره وحسن صفته وبلاغة قوله ، ولو لم يسد معروفا إليه ، ومن شأن الإنسان أن يسارع في حب الذي يسدي المعروف إليه ، فان النفوس جبلت على حب من احسن إليها .
__________
(1) ـ ورد بلفظ ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) رواه البخاري ، ج1 ، ص 10 ، ومسلم في الإيمان ، ب 16 ، رقم 70.
(2) ـ رواه البخاري في صحيحه ج1 ص 10 والنسائي في سننه ج8 ص 115 .
(1/6)
وإذا كان العظم من أسباب الحب ، وكان المعروف من أسباب الحب ؛ فان أولى كل موجود بأن يحب ويعظم هو الله تبارك وتعالى ، فإن عظمة الله لا تكتنه ، وجلال الله سبحانه وتعالى لا يمكن لعقل إنسان أن يحصره ، وكثير من آيات الكتاب العزيز تقرن بين الامتنان على الخلق وبيان عظمة الله سبحانه وتعالى في آياته المنبثة في هذا الكون : { الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وأتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها أن الإنسان لظلوم كفار } سورة إبراهيم /32 - 34 . .
فجدير إذا بهذا الإنسان أن يكون محباً لله سبحانه وتعالى ، مسارعا في طاعته ولو على حساب هوى نفسه .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد الله عز وجل هو أحق كل شيء بالحب ، فان الناس كانوا هلكى لو لا أن من الله تعالى عليهم بأن بعث فيهم ومنهم عبده ورسوله سيدنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ظلال مبين } سورة آل عمران / 164 ..
فالإنسانية كانت في ظلال مبين ، كانت تتخبط العشواء في هذه الحياة ، لا تميز بين قبيلها و دبيرها، ولا بين ما ينفعها وما يضرها ، ولا بين ما يصلحها وما يفسدها ، إنما كانت منساقة وراء شهواتها وأوهامها، كانسياق البهائم العجماء ، حتى من الله سبحانه وتعالى على الخلق بأن بعث فيهم سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينقذهم من تلك الضلالة التي كانوا عليها ولينتشلهم من ذلك الضياع الذي وقعوا فيه ، فهو عليه افضل الصلاة والسلام حقيق بأن يكون محبوباً عند كل إنسان .
(1/7)
محبة المؤمنين من الإيمان : ويبين لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الإيمان ـ أيضاـ يقتضي انسجام العبد المؤمن مع إخوانه المؤمنين في مشاعره إذ يقول عليه أفضل الصلاة والسلام : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) (1) .
الإيمان والمعصية لا يجتمعان: وبين الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المعصية تنافي الإيمان عندما يرتكبها الإنسان ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - :( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) (2) .
وبين عليه افضل الصلاة والسلام أن الأعمال التي تحدث من الإنسان ، حتى إبان انفعالاته و الأعمال تخرج به عن الطريق السوي ؛ تعد من أعمال الجاهلية ، وهي تنافي الإيمان ، فعندما كان تلاح بين صحابيين جليلين من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهما أبو ذر الغفاري و بلال الحبشي ،فقال أبو ذر لبلال رضي الله عنهما: (يا ابن السوداء ) ؛ اشتد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ، وقال له : ( طفح الكيل ، طفح الكيل، طفح الكيل ، إنك امرؤ فيك جاهلية ، لا فضل لابن البيضاء على ابن السوداء إلا بالتقوى ) (3) ، ولم يجد أبو ذر - رضي الله عنه - عنه طريقاً ليكفر به خطيئته إلا إن يضع خده على التراب، وطلب من بلال الذي ناداه بابن السوداء أن يضع قدمه على خده .
هكذا يبين لنا الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقيقة الإيمان وجوهر الإيمان ، فمن هنا نعرف أن الإيمان يكون عقيدة وعملا .
__________
(1) ـ رواه البخاري في صحيحه ، ج1، ص 10 ، ومسلم في الإيمان ، ب ، 17 ، رقم 71 .
(2) رواه البخاري في صحيحه ج3 ص 178 ج7 ص 136 ج8 ص 195 و 197 ومسلم في الإيمان ب 24 رقم 100 ، 105.
(1/8)
الإيمان يطلق على العقيدة وحدها ويطلق عليه وعلى العمل الذي يتفاعل معه المعتقد فان العقيدة الراسخة في النفس من مقتضاتها أن يتفاعل معها صاحبها ،أما العقيدة التي لا يتفاعل معها الإنسان ؛ فهي غير عقيدة راسخة ، إنما هي عقيدة سطحية طافية ، لا تلبث أن تتلاشى ؛ لأنها لم تتعمق في أعماق النفس .
أقوال العلماء في بيان حقيقة الإيمان
وقد كان السلف يقولون بهذا القول ، وهو أن الإيمان قول وعمل :
(1/9)
نجد في مصنف عبد الرزاق (1) ، فيما نقله عن سفيان الثوري (2) ، ومالك ، و الاوزاعي (3) ،و قتادة (4) ، و آخرين ، نقل عنهم بأن الإيمان قول وعمل ، وروى أبو القاسم (5)
__________
(1) ـ الصنعاني ( 126 - 211 هـ = 744 - 827 م ) عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم أبو بكر الصنعاني من حفاظ الحديث الثقاة ، من أهل صنعاء . الأعلام للزركلي ج3 ص 353
(2) ـ سفيان الثوري ( 97 - 161 هـ ) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري من بني ثور ابن عبد مناه ، كان سيد أهل زمانه في علوم الدين والفتوى ، ولد ونشأ بالكوفة ، راوده المنصور العباسي على أن يلي الحكم ( القضاء ) فأبى ، وخرج من الكوفة سنة 144 هـ فسكن مكة المكرمة ثم المدينة المنورة ، وطلبه المهدي العباسي فانتقل الى البصرة ، فتوفي بها مستخفيا . الأعلام ج3 ص 104 .
(3) الأوزاعي ( 88 - 157 هـ= 707 -774 م) عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الاوزاعي أبو عمرو إمام الديار الشامية في الفقه والزهد ، واحد الكتاب المتمسكين ، ولد في بعلبك ، ونشاء في البقاع ( لبنان ) ، وسكن بيروت وبها توفي. انظر: الأعلام ج3 ص 320 .
(4) ـ قتادة ( 61 - 118 هـ = 680 - 736 م ( قتادة بن دعامة بن قتادة أبو الخطاب السدوسي البصري . مفسر حافظ ، ضرير، أكمخ ، مات بواسط في الطاعون . الأعلام ،ج5 ، ص 119 .
(5) ـ أبو القاسم اللالكائي ( 418 هـ = 1027 م ) هبة الله بن الحسين بن منصور الطبري الرازي أبو القاسم اللالكائي ، حافظ للحديث ، من فقهاء الشافعية من أهل طبرستان . استوطن بغداد وخرج في آخر أيامه الى الدينور فمات بها كهلا ،. الأعلام ، ج8 ، ص 71 ..
(1/10)
اللالكائي في كتاب السنة عن الشافعي (1) ، وجماعة آخرين من السلف : بأنهم كانوا يقولون الإيمان قول وعمل ، وروي بإسناده عن البخاري بأنه قال : أدركت من السلف اكثر من آلف رجل ، يعني من علماء السلف ، فوجدتهم لا يختلفون في أن الإيمان قول وعمل .
وذكر الحافظ بن كثير في تفسيره عن الإمام الشافعي ، و الإمام احمد بن حنبل (2) ، وأبى عبيد (3) ، و آخرين ، بأنهم نقلوا الإجماع بأن الإيمان قول وعمل .
وهذا القول هو الذي اتفق عليه علماؤنا ، قالوا : بأن الإيمان قول وعمل .
حديث جبريل - عليه السلام - وحقيقة الإيمان
وإذا رجعنا إلى الإيمان وأصوله التي جاءت في حديث جبريل - عليه السلام - وجدنا أن الإيمان بما يجب الإيمان به من الأركان الستة المذكورة في ذلك الحديث يقتضي العمل الصالح .
أولا: الإيمان بالله عز وجل
__________
(1) ـ الشافعي : ( 150 - 204 هـ = 767 - 820 م ) محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي أبو عبد الله ، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة ، وإليه ينسب الشافعية كافه ، ولد في غزة بفلسطين ، وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين ، وزار بغداد مرتين ، وقصد مصر سنة 199 هـ فتوفي بها.
(2) ـ احمد بن حنبل ( 164 - 241هـ) احمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني الوائلي . إمام المذهب الحنبلي ، أصله من مرو ، ولد ونشاء ببغداد من أشهر كتبه ( المسند ) في ستة مجلدات . ويحتوي على 30 ألف حديث. (الأعلام ج1 ص 203 ).
(3) أبو عبيد ( 157 - 224 هـ) القاسم بن سلام الهروي الأردي الخزاعي بالولاء . من كبار العلماء بالحديث و الأدب والفقه من أهل هراة ، ولد وتعلم بها ، ورحل الى بغداد فولي القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة ، ورحل الى مصر سنة 213 ،من كتبه ( الغريب المصنف - ط مجلدان في غريب الحديث ) ، وهو أول من صنف في هذا الفن ، له كتب أخرى . الأعلام للزركلي ج5 ص 176 .
(1/11)
فالإيمان بالله سبحانه وتعالى إيمان بأن الله هو الخالق ، وهو الرازق ، وهو المحي ، وهو المميت ، منه المبدأ واليه الرجعى ، لا ينفلت أحد من قبضة سلطانه ، ولا مناص لأحد عن حكمه ، فهو الله القاهر الذي لا يعجزه شيء في السموات والأرض.
الإيمان بالله هو إيمان بذاته سبحانه وتعالى ، و بصفاته ، وبأفعاله ، هذا الإيمان يبعث على العمل الصالح ؛ لآن الإنسان إذا استشعر سلطة الله سبحانه وتعالى التي تحيط بهذا الكون بأسره، بما دق وجل منه من الذرة المهينة ، بل مما هو أدق من هذه الذرة المهينة ، الى المجرات الواسعة التي تسبح فيها آلاف الأجرام الهائلة ، إذا أدرك الإنسان ذلك ، جعلته هذه العقيدة ، جعله هذا الإدراك أن يتطامن ويتواضع ويخشع لذي العزة والسلطان ، القاهر لكل شيء ، الذي لا يعجزه شيء في هذا الكون.
وبجانب ذلك يؤمن بان هذا الخالق العظيم هو الذي اسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة ، فقد أخرجه من العدم الى الوجود ، ونقله من المهانة الى العزة ، فبعد أن كان نطفة مهينة حقيرة ، لا تكاد تبصر حتى بأشعة المجهر ، الحيوان المنوي الذي خلق منه الإنسان لا يكاد يبصر حتى بأشعة المجهر، بعدما كان ذلك ، طوره الله سبحانه وتعالى في خلقه طوراً بعد طور ، حتى خرج إلى الوجود على ما هو عليه ، فكان إنسانا سميعا ، بصيراً ، عاقلا مدبراً ، وحباه الله سبحانه وتعالى نعمه الواسعة ، الظاهرة والباطنة ، هيأ الله تعالى من يربيه ، وهيأ له رزقه ، وهو في حالة عجز وضعف ، حتى تربي ، وترعرع ، ونشاً إلى أن بلغ ، وصار إنسانا عاقلاً مفكراً ، ونمت مداركه مع نماء جسده ، وكبرت قواه مع كبر حجمه ، الذي خلق الإنسان بهذه الحالة ، و أخرجه من تلك الحالة إلى هذه الحالة ؛ جديرا بأن يعبد ، ويطاع ، وينقاد له ، ويخضع له ، ويسلم لأمره ، ولا يعصي في شيء من أوامره ، أو شيء من زواجره .
هذا هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى .
ثانياً : الإيمان بالملائكة
(1/12)
والإيمان بملائكة الله سبحانه وتعالى ـ أيضا ـ يقتضي مراقبة النفس ومحاسبتها، فان الإيمان بملائكة الله ليس بالأمر الهين إذا كان على حقيقته ؟
إذا كان إيمانا يسيطر على العقل والوجدان ، يستشعر الإنسان معه بأن عليه مراقبة دقيقة ؛لأن من وظائف أولئك الملائكة مراقبة الإنسان ، فالله تبارك وتعالى يقول :{ ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد } سورة ق / 18 .
، ويقول الحق سبحانه وتعالى: { كلا بل تكذبون بالدين وان عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون } سورة الانفطار / 10 - 11 .
الإنسان محاسب ومراقب ، ملائكة الله سبحانه وتعالى تلحظه في كل أوقاته ، تسجل جميع أعماله ، وإذا كان الإنسان من شأنه أن يرهب ويخشى مراقبة مخلوقين مثله ؛ كمراقبة أصحاب المخابرات ، ويحاول جهده ألا يبدو لهم من نفسه إلا ما يرضي الجهة التي سلتطهم عليه ، وجعلتهم يراقبونه ، فكيف وهو يشعر بمراقبة الملائكة الكرام الكاتبين الذين لا يخفى عليهم شيء مهما يأتون ؛ لأن الله سبحانه وتعال مكنهم من ذلك ، ومع ذلك ، فان المراقب الأعظم هو الله تبارك وتعالى، والمرجع إلى الله، وما تسجله الملائكة يعرض على الله سبحانه وتعالى ، ومن بعد ذلك يعرض على هذا العبد من قبل الله ويحاسب عليه حساباً دقيقاً .
جدير بهذا الإنسان أن يستشعر مع إيمانه بالملائكة الخوف ، من هذه المراقبة الدقيقة، وأن يحرص على أن لا تنقلب الملائكة إلى الله سبحانه وتعالى إلا بصحائف بيضاء من أعماله الصالحة التي عملها .
وبجانب ذلك ، يشعر أيضا بعظمة الله سبحانه وتعالى ، الذي تخشاه هذه الملائكة على مالها من قوة ، وما جعل الله سبحانه وتعالى لها من مزايا ليست موجودة في سائر الخلق ، فالله تعالى يقول في وصفهم : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } سورة الأنبياء / 20 .
(1/13)
ويقول الله تبارك وتعالى في هؤلاء الملائكة : { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم اني اله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين } سورة الأنبياء / 26 - 29 .
فهؤلاء الملائكة مع مالهم من شأن عند الله سبحانه وتعالى، ومع هذه العبادة الدائبة التي لا يفتأوون عنها في ليلهم ونهارهم، مع ذلك كله ؛ فهم مجزيون لو خالفوا أمر الله : ومن يقل منهم إني اله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } سورة الأنبياء /29 .
ووصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم من خشيته مشفقون فكيف بهذا العبد الضعيف الحقير المهين ؟ كيف بهذا الإنسان الذي تؤذيه البعوضة والذي يتململ من الحمى تصيبه ، والذي يتعثر ببعرة ، والذي يتقيد بشعرة ، كيف بهذا الإنسان ؟ أليس هو أولى أن يكون خائفاً من الله سبحانه ؟ مراقبا ربه في جميع أحواله ؟ راجيا لمرضاته ؟ مشفقا من عقوبته ؟ مسارعاً الى طاعته ؟
الإيمان بالملائكة إذا يبعث على العمل الصالح ، ويحصل هذا التفاعل إذا كان هذا الإيمان راسخاً في النفس ، مهيمناً على العقل والقلب .
ثالثاً :الإيمان بالرسل
والإيمان برسل الله سبحانه ـ أيضاًـ هو مدعاة للعمل الصالح ؛ لأن الإنسان يفكر في هؤلاء الرسل : لماذا أرسلوا ؟ إنما أرسلوا لدعوة الخلق الى الحق .
ما هو هذا الحق ؟ الحق هو الإيمان والعمل الصالح ، فإذا على هذا الإنسان ، الذي آمن بهؤلاء المرسلين ، أن يعمل صالحا .
(1/14)
ثم إن الإيمان بالرسل يجعل الإنسان يشعر بأن الرسل اكرم الخلق ، أكرم الناس ، فهم أجل الناس قدرا ، و أثقلهم وزنا ، و أحسنهم سيرة ، و أصفاهم سريرة ، و أعدلهم سلوكا ، و أحسنهم خلقا، وأوفرهم عقلا ، وأجلهم شأنا ؛ ولذلك اختارهم الله سبحانه وتعالى بأن حملهم أمانته ، واستودعهم رسالته ، وجعلهم وعاء لهذا النور العظيم ، الذي جاءوا به الى الخلق من رب العالمين .
ومن شأن الإنسان ، كما قلت من قبل ، أن يحب ذوي الشأن ، وأن يقتدي بأحبائه ، وإذا أحب أحدا أحب الاقتداء به ، فمحبة رسل الله سبحانه تجعل الإنسان يقتدي بهم ، فالإيمان بهم باعث على محبتهم ، ومحبتهم باعثة على الاقتداء بهم ، وهدي جميع المرسلين إنما هو يتجسد في الرسالة الجامعة الخاتمة ، رسالة عبد الله ورسوله محمد عليه افضل الصلاة والسلام الذي جاء بها من رب العالمين ، وخلق جميع المرسلين يتمثل في خلقه عليه افضل الصلاة والسلام وفضل جميع المرسلين ينعكس في فضله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا هو في فضائله ، هو جامعة الجميع ، والاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - من مقتضيات الإيمان برسالته عليه أفضل الصلاة والسلام، والله تعالى يقول: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } سورة الأحزاب / 21 .
إذا على المؤمن، الذي يرجو الله واليوم الأخر، أن يتأسى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بأن يترسم خطواته ، وأن يتبع آثاره، وأن يحرص على هديه ، ويقول الله تبارك وتعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } سورة النساء / 65 .
، الإيمان منتفي عمن لم يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أقسم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بنفسه عز وجل { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم }.
(1/15)
إذا ، الإيمان بالله ورسوله يقتضي اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعدم الإعراض عن هديه ، وعدم ابتغاء الخير في غير هديه .
رابعاً :الإيمان بالكتب
والإيمان بالكتب ـ أيضاً ـ يقتضي اتباع هذه الكتب فإن ترك هذه الكتب و إهمالها يعني عدم الإيمان بها .
فليس كل من صدق بأن هذا الكتاب هو من عند الله آمن بهذا الكتاب تمام الإيمان مادام ما عمل بما يقتضيه ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنزل هذه الكتب لا لتتلى فقط ، ولكن ليُعمل بها ، ولِتُتَّبَع ، ويجمع ما تفرق في هذه الكتب من الهدي والخير والبر كتاب الله الخالد ، القرآن الكريم الذي أُنزل على النبي العظيم محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم .
وقد بين الله سبحانه وتعالى عقوبة الذي يعرض عن هذا الكتاب العزيز،حيث قال: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}سورة طه /124 .
، وقال الله سبحانه وتعالى : { وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فانه يحمل يوم القيامة وزرا} سورة طه / 100 ،هكذا عقوبة الذي يعرض عن هذا القرآن.
والله سبحانه وتعالى بين أن الإيمان الصحيح بما أنزل الله يقتضي التفاعل معه ، حيث قال في بني إسرائيل ، بعدما عاتبهم على ما ارتكبوه مما يتنافى مع هدي ما أنزل إليهم من كتاب ، ارتكبوا ما يتنافى مع ذلك ، عملوا ببعض الكتاب وتركوا بعض ما جاء في الكتاب، فقال الله تعالى لهم :{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } سورة البقرة / 85 .
ويقول الله تبارك وتعالى في بني إسرائيل :{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } سورة الجمعة / 5 .
(1/16)
فهكذا شأن المسلم عندما يهجر هذا الكتاب العزيز: لا يعمل بمقتضاه ، ولا يتمسك بهديه ، ولا يتبع نوره ؛ كذلك مثله مثل الحمار الذي حمل أسفارا ، إذا لا يختلف شأن هذه الأمة عن شأن غيرها من الأمم إذا هجرت كتاب ربها ، و أضاعت هدي نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام .
خامساً: الإيمان باليوم الأخر
والإيمان باليوم الأخر يقتضي الاستعداد لذلك اليوم، وهو أهم ضابط من ضوابط حياة الإنسان بعد الإيمان بالله تعالى، فلذلك يقترن مع الإيمان بالله في القرآن الكريم وفي سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مقام الأمر، والنهي .
فالله تبارك و تعالى كثيراً ما يقول ذلك لمن كان يرجو الله واليوم الأخر في معرض الأمر والنهي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما قال : من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليفعل كذا ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يفعل كذا ، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:( من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم ضيف،ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يؤذ جاره ) (1) .
فان الإيمان بالله هو الضابط الأول لحياة الإنسان، والإيمان باليوم الأخر هو الضابط الثاني؛لأن الإنسان إذا آمن بالله سبحانه وتعالى الذي بدأه و أخرجه من العدم الى الوجود، واسبغ عليه النعم الظاهرة والباطنة، واستخلفه في الأرض، وخلق له جميع منافعها، وسخر له منافع الكون، إذا آمن بذلك، دعاه هذا الإيمان الى اتباع أوامر الله والى اجتناب محارمه .
ولكن كثيراً ما تطغى على الإنسان شهوات نفسه ورغبات قلبه ، فلا تترك لعقله قوة وهيمنة عليه ، فينساق وراء هذه الشهوات ، كثيراً ما يحدث ذلك ، فان العقل سرعان ما يتأثر إذا ما غشيته غواشي الغضب ، وإذا هبت عليه عواصف الشهوات فأطفأت شعلته فلا يبقى له سلطان على النفس .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري في صحيحه ، ج8 ، ص 13 ، ص 39 ، 125 ، ومسلم في الإيمان ، 74.
(1/17)
إلا أن الإنسان عندما يؤمن بمعاد يلقى فيه جزاءه ، إن كان خيرا أو كان شراً ، عندما يؤمن بهذا الإيمان سرعان ما يثوب الى رشده ، ويحاول جهده أن يضبط غرائزه ، وأن يسيطر على شهواته ، وأن يقيد نزواته .
والإيمان باليوم الأخر هو إيمان بوعد ووعيد، فالوعد هو ما وعد الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين المتقين من الثواب،والوعيد ما توعد به تعالى الكافرين والفاسقين من العقاب.
فإذا شعر الإنسان بأن ثم وعداً ووعيداً ، وأنه لابد من أن يحاسب على أعماله فيجازى بها يوم القيامة ، إذا شعر بذلك من أعماق نفسه ، كان هذا الشعور باعثاً له على فعل الخير، واجتناب الشر ، فإن الإيمان بثواب الله المصحوب بالرجاء ، والإيمان بعقاب الله المصحوب بالخوف يزجران الإنسان عن الشر ، ويدفعانه إلى الخير ، الإيمان بالثواب دافع إلى عمل الصالحات ، والإيمان بالعقاب رادع عن عمل السيئات ، فيخرج المؤمن بنتيجة من هذا الإيمان ، وهي العمل الصالح .
سادساً: الإيمان بقدر الله خيره وشره
كذلك الإيمان بقدر الله خيره وشره ، يجعل نفس الإنسان تتطامن وتطمئن الى ما يحدث ، فإن أي شيء يصيب الإنسان إنما هو مكتوب عليه ، ولا مناص له عنه ، لا مفر له منه سواء كان خيراً أو شرا .
الله سبحانه وتعالى كتب كل شيء ، وقد جفت الأقلام وطويت الصحف { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون } سورة التوبة /51 .
هذا الإيمان يجعل الإنسان يطمئن ويسارع الى طاعة الله ، راجياً ثواب الله ، وخائفاً من عقابه، واثقاً أنه لا يصيبه أي شيء إلا ما كتبه الله عليه ( فلو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء كتبه الله له ولوا اجتمع أهل السموات والأرض على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه ) (1) .
__________
(1) ـ رواه الترمذي ، الباب 59 ، رقم 2516 ، واحمد في مسنده ،ج4 ص 233 ، رقم266 9 ، تحقيق احمد شاكر .
(1/18)
هذا الإيمان يدفع أيضا الى العمل الصالح ، فنخرج من هذا بنتيجة ،وهي أن الأركان الستة التي جاءت في حديث جبريل عليه السلام ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله ) (1) الإيمان بها حقا يقتضي التفاعل معه ، ويقتضي أن يكون العبد المؤمن مسارعاً إلى طاعة الله تعالى ، مجتنبا لمعصيته ، حريصاً على ما يقربه إليه ، خائفاً مما يباعده عن الله تعالى .
ذكرت لكم هنا حديثاً مجملاً عن الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الأخر، والقدر خيره وشره ، وسأعود إن شاء الله في الدروس الآتية إلى تفصيل هذا الإجمال ، وبيان أن الإيمان بذلك كله هو مما يندرج تحت جملة التوحيد التي كان يدعوا إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الجملة هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
والإيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ طبعاًـ يقتضي الإيمان بما جاء به عليه أفضل الصلاة والسلام ، وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ) (2) .
ولا بأس أن نتحدث ـ ولو باختصارـ عن هذه الجملة ؛ جملة التوحيد طبعاً .
جملة التوحيد
هذا الاصطلاح ، لا يوجد في الكتب الكلامية وغيرها من الكتب التي ألفها غير الاباضية ، وإنما هو مصطلح خاص بالاباضية، وعندهم للجملة أحكام ولتفسيرها أحكام .
__________
(1) ـ أخرجه مسلم في صحيحه ، رقم 1، كتاب الإيمان.
(2) ـ أخرجه البخاري في الزكاة ، باب وجوب الزكاة ، رقم 1399 ، ومسلم في الإيمان ، الباب الثامن رقم- 32، 33 ، 34، 35 ، 36.
(1/19)
وتفسير الجملة ينقسم إلى قسمين : تفسير اعتقادي ، وتفسير عملي ، فلعلي أتحدث هنا في هذه المدة القصيرة الباقية عن الجملة وتفسيرها الاعتقادي ، وادع الحديث عن التفسير العملي الى الدرس الآتي.
التفسير الاعتقادي للجملة
جملة التوحيد ، هي هذه ، هي شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، هذه الجملة أول ما يطالب بها الإنسان ، وبعد أن تقوم عليه حجتها لا ينفس له أن يسأل عنها ، وطبعاً معرفة الله سبحانه وتعالى مما تقوم به الحجة من طريق العقل { أفي الله شك فاطر السموات والأرض } سورة إبراهيم /10 .
، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم مما تقوم به الحجة من طريق السمع فإذا قامت على الإنسان الحجة بهذه الجملة لم ينفس له لحظة واحدة ليسأل ، عليه ن يؤمن ويشهد أن لا اله إلا الله ، ويؤمن ويشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا .
والإيمان بأن لا إله إلا الله إنما هو إيمان بالله تعالى الحق ، فالإله هو المعبود بحق ، وعندما تؤمن بأنه لا اله إلا الله ؛ إنما تؤمن إيمانا جازماً قاطعاً بأنه لا معبود بحق إلا الله ، فالله وحده هو المعبود بحق ، وسائر المعبودات كلها تعبد بباطل ، سواء كانت هذه المعبودات من جنس البشر، أو كانت هذه المعبودات ملائكة ، أو كانت جنا ، أو كانت هذه المعبودات أحجاراً، أو كانت هذه المعبودات أشجاراً ، أو كانت هذه المعبودات أوهاماً وأساطير، هذه المعبودات كلها تعبد بباطل ، وإنما الذي يعبد بحق هو الله سبحانه وتعالى .
(1/20)
وإنما كانت عبادة الله سبحانه وتعالى هي الحق ، وعبادة غيره باطلة ؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بالربوبية ، فتوحيد الألوهية مبني على توحيد الربوبية ، استحق الله تعالى العبادة دون غيره من الكائنات بأسرها؛ لأن جميع الكائنات مخلوقة لله ، والله تعالى وحده هو الرب ، هو رب العالمين ، فما من شيء في هذا العالم ، ظاهراً كان أو باطناً ، دقيقاً كان أو جليلا ، صغيراً كان أو كبيراً ، عاقلاً كان أو غير عاقل إلا وهو مربوب لله ؛ لأن الله هو الذي خلقه وهو الذي يربيه التربية التكوينية بحسب نواميس الكون التي سنها الله عز وجل ، ولما كان كل شيء مربوباً لله فإن كل شيء لا يستحق أن يعبد ، إنما العبادة هي لله ، فالإله بمعنى المألوه ككتاب بمعنى المكتوب والعماد بمعنى المعمود ، إذ اًلإله بمعنى المألوه أي المعبود وأله بمعنى عبد .
ومن هذا الباب ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قرأ و يذرك والهتك أي : وعبادتك ، فالإله هو المعبود واصله مألوه ، على وزن فِعال دالاً على معنى مفعول .
فالإله الحق هو الله ، فإذا اعترف الإنسان بأن الله هو الإله الحق ، وأن ماعداه مما يعبد إنما هو باطل، إذا اعترف الإنسان بذلك ، آمن بصفات الله ، من صفاته سبحانه القدم ، من صفاته سبحانه وتعالى البقاء المطلق الذي لا يقيد ، من صفاته سبحانه العلم ، القدرة ، الإرادة ، المشيئة ، السمع ، البصر ، الحياة ، جميع الصفات التي تليق بجلال الله عز وجل والتي هي تخالف صفات المخلوقين كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله .
(1/21)
وإذا آمن بأن محمداً رسول الله ، فقد آمن بأن محمداً جاء برسالة حقة من عند الله سبحانه وتعالى ، هذه الرسالة الحقة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - مشتملة على ما ذكرته من قبل من أركان الإيمان مع تفاصيل الإيمان بهذه الأركان، فإذا الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه حق جاء بالحق من عند الله سبحانه وتعالى ، هو إيمان بالمعتقد الصحيح كله ، بجانب كون الإيمان بالله يقتضي الإيمان بصفات الله .
طرق إثبات تفسير الجملة
و الإنسان إذا لم تقم عليه الحجة بمعرفة شيء من تفسير هذه الجملة هو في فسيح العذر ، فإذا قامت عليه الحجة أيضا بتفسير هذه الجملة ، اختلف العلماء في ذلك :
منهم من قال بأنه ينفس له أن يسأل حتى يتأكد ، ومنهم من قال لا ينفس له ، هذا إن قامت عليه الحجة يخاطر باله، أما إذا كانت الحجة قائمة من قبل أناس من البشر اطمئن إلى صدقهم ، فعليه أن يؤمن ولا مناص له ، الحجة قائمة عليه.
وبعض العلماء فسروا بين ما تقوم حجته من قبل العقل أو من قبل النقل، ففرق بين صفات الله الذاتية ، وبين المرسلين وصفاتهم ، والملائكة وغير ذلك ، وجعل ما تقوم به الحجة عليه من صفات الله سبحانه وتعالى بخاطر العقل ، هو ما يمكن أن يدركه بالعقل إذا فكر، وذلك أن يفكر مثلاً هل الله سبحانه وتعالى الذي خلقني عالم أم غير عالم ؟ أنت تنظر في هذا الملكوت ، وتنظر في نفسك ، ترى العجب من صنعك إذاً هل يمكن أن يخلق هذا الخلق إلا من هو عالم .
تقوم على الإنسان الحجة إذا فكر بمجرد تفكيره ،أما إذا كانت الخواطر هذه أدته إلى أن يفكر في المعاد ، ففي هذه الحالة ينفس له أن يسأل ؛ لأن المعاد لا يمكن أن يجزم فيه الإنسان بغير أن يسمع حجته من طريق السمع ، وكذلك سائر أفعال الله سبحانه التي لا تتضح ولا تتبين من التفكير بمجرده .
(1/22)
طبعاً هناك أحكام، أحكام تفسير الجملة تختلف عن أحكام الجملة نفسها، وسوف أتعرض لها إن شاء الله سبحانه وتعالى في الدرس الآتي مع ذكر التفسير العملي لهذه الجملة ، واسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، إنه ولي التوفيق .
ومن كان عنده سؤال يطرح سؤاله في هذا الموضوع ، ويا ليت أن تكون الأسئلة مكتوبة .
الأسئلة
السؤال الأول : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) (1) فنرجوا أن تبين ذلك ، هل الإيمان يزيد وينقص أم ينهدم كليا ؟
الجواب : قضية زيادة الإيمان ونقصانه ، هذه المسألة أرجو أن أتعرض لها إن شاء الله في الدرس الآتي ، لأن المسألة هذه تحتاج الى بيان وإيضاح ، وجمع ما بين أقوال العلماء ، وبيان وجه كل قول من هذه الأقوال .
السؤال الثاني : حول قول الله تعالى { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } سورة طه / 125 .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري في الأشربة ، باب ( إنما الخمر والميسر والأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) ، وفي المظالم ، باب النهي ب غير إذن صاحبه - 2342 - وفي الحدود ، باب ما يحذر من الحدود وفي الحدود أيضا باب إثم الزناة ، و أخرجه مسلم في الإيمان ، باب 24 ، رقم 100 ، 101 ، 102 ، 103 ، 104 ، 105.
(1/23)
الجواب : طبعاً في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( من تعلم القرآن ثم نسيه حشر يوم القيامة أجذم ) (1) ، والآية الكريمة تنطبق على من أهمل القرآن وترك العمل به ، طبعاً هو ممن يحشره الله تعالى يوم القيامة أعمى ، لأنه عمي عن هدي الله سبحانه وتعالى الذي أنزله والحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(من تعلم القرآن ثم نسيه حشر يوم القيامة اجذم والعياذ بالله).
فيجب على الإنسان أن يحرص عندما يحفظ شيئاً من القرآن على بقائه محفوظا عنده، وأن لا يهمله ، وأن يدرسه ، فإن القرآن ـ كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إذا عاهد عليها امسكها وإذا أطلقها ذهبت) (2) ، يعني الإبل المعقلة مربوطة بالعقال إذا تعهدها المرة بعد المرة ينظر إليها بقيت عنده ، ولكن إذا أهملها أخيراً ينطلق العقال ، مع السلامة ، تذهب الإبل ، وكذلك القرآن الكريم ، فالقرآن الذي يتعهده بالدرس وبالحفظ يبقى عنده ، والذي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق