البهلاني فقيها وأديبا لأحمد الخليلي - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الاثنين، 10 يناير 2022

البهلاني فقيها وأديبا لأحمد الخليلي

 





الكتاب : البهلاني فقيها وأديبا لأحمد الخليلي
ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطلوع
البهلاني فقيها وأديبا
الحمد الله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, سبحانه له الحمد على ما أنعم, علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم- أحمده وأثنى عليه, واستغفره وأتوب إليه, وأومن به وأتوكل عليه, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله, أرسله الله إلى إلى خلقه منقذا من الضلالة ومعلما من الجهالة وداعيا إلى الله على بصيرة, فبلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة وكشف الغمة, وصلى الله وسلم عليه, وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أصحاب الفضيلة والسعادة أيها الأخوة الحضور, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنه من يمن الطالع أن يتجدد لقاؤنا في هذا الصرح الثقافي تحت مظلة العلم والأدب, من أجل إحياء ذكريات أعلام هذا البلد العريقين في علمهم وفي أدبهم, وإن مما يسعد النفس ويبهج الخاطر أن يكون المختفى بذكراه في هذا اللقاء الميمون رجلا تلاطم في حيزومه بحر العلم والأدب, وهو الأديب الذي لا يشق له غبار وهم الفقيه المحقق المعروف بعمق مناقشاته الفقهية وقوة تأصيلاته لمسائل الفقه وهو المتكلم البارع الذي يثبت حجة الحق بما يثلج الصدور وبما يثري القلوب.
أن المحقق به إمام العلم والأدب العلامة الكبير أبي مسلم بن ناصر بن سالم بن عديم بن صالح بن محمد بن عبد الله بن محمد البهلاني الرواحي- رحمه الله تعالى- وشهرته تغني عن التعريف.
(1/1)
والحديث عن شخصية أبي مسلم حديث ذو شجون, فطرح الجانب الأدبي في مثل هذه الندوة من أجل استقصاء مهارة أبي مسلم الأدبية أمر يستدعي جهدا كبيرا, كما أن طرح مناقشة قوة مأخذه في الفقه, وعمق تأصيلاته الفقهية, أيضا أمر يحتلح إلى باع طويل في الفقه وذلك أمر لا يستطيعه مثلي وقد كنت حريصا كل الحرص على الحضور هنا معكم في الليلتين الماضيتين من أجل الاستفادة من الباحثين المهرة الذين تناولوا شخصية أبي مسلم وعلمه وأدبه, ولكن حالت الظروف دون ذلك, والمقادير دون الأماني كثيرا.
ولئن جئنا إلى شخصية أبي مسلم الأدبية- نجد أنه لم يكن أديبا تقليديا يهيم في كل واد ويقول ما لا يعمل, وإنما كان رجلا في أمة وأمة في رجل, يحمل هموم أمته, ويتلمس بيده الخبيرة عللها وآلامها, ويسنتنج بعقله الثاقب علاجها ودواءها من تلك العلل التي تعاني منها فكانت معاناته بسبب ذلك معاناة كبيرة.
نعم, عاش أبو مسلم من أجل أمته وسخر قلمه لخدمتها, فلئن جلنا في أدبياته الروحانية التي قدم فيها أسماء الله الحسنى نجد أنه في مرحلة مبكرة كان يدعو الله- تبارك وتعالى- ويبتهل إليه بأن يهيىء لهذه الأمة من أمرها رشا فقصيدته التي نظمها وهو مطلع العقد الثاني من عمره وسماها المعرج الأسنى في أسماء الله الحسنى, نلمس فيها هذا الابتهال والضراعة إلى الله- تبارك وتعالى- كما في قوله:
ويا قاهر اقصتم دولة السوء وامحها ... ... وشرد وأشدد عليها معجلا
ويا وارث اصرف سورة البغي وانتقم ... ... بعدلك ممن بالضلال تسربلا
ويا باعث ابعث راية الحق حولها ... ... جنودك تبلو في رضاك وتبتلى
ويا قائما بالقسط قوم مسددا ... ... قويا على أظهار دينك فيصلا
يصول سريعا يا سريع بنقمة ... ... على كل ضليل عن الحق أحفلا
وهكذا نجد في جميع أذكاره التي جمعها في ديوانه الذي سماه ( النفس الرحماني من أذكار أبي مسلم البهلاني).
(1/2)
ولئن جئنا إلى قصائد الأخرى التي تتعلق بجانب الأمة نجد أنه الطبيب الخبير, فقد عرف حق المعرفة داء الأمة ودواءها, كما نجد ذلك واضحا في كل قصائده التي تناولت هذا الجانب لا سيما تلكم القصيدة العصماء المقصورة, والتي شخص فيها العلة وجسد الألم, ووصف فيها الدواء, نسمعه في مقصورته تلك يتألم لآلام هذه الأمة عندما يقول:
اذكي من النار بقلبي زفرة ... ... يخرجها المظلوم من حر الأسى
محترق الأكباد من حسرته ... ... لا غوث لا منصف لا يلوي إلى
أنفاسه تطرق باب العرش لا ... ... تطرق باب غيره ولا ذرى
وعبرة تسفحها أرملة ... ... كالخلق السحق اصارها الضوء
شعثاء غبراء عليها ذلة ... ... مهضومة الحق عديمة الحمى
وصفرة على يتيم شاحب ... ... ادقعه الفقر وأشواه الضنا
مفترشا على العفا اديمه ... ... وهل له عافية على العفا
يغدو ويمسي ضاحيا تحت السما ... ... كأنه عود خلال أو خلا
وضربة من سيف به نهكت ... ... وجه تقي مثل تشهاق العف
وسطوة من ظالم شباته
ينتهك الحرمة لا تريغه ... ... اقتل للإسلام من حد الظبا
ضريبة من كرم ولا تقى
يرى عيال الله صيد قوسه ... ... يترك ما شاء وما ساء رمى
جاس البلاد بالبلاء طاميا ... ... فبز حتى بلغ السيل الزبى
وغيرة المؤمن في ضميره ... ... يطفئها الخوف ويوريها الاسى
يهان في حريمه وعرضه ... ... ودينه وماله مثل اللقا
ثم بعد ذلك يوجه النداء إلى رجال أمته:
أين رجال الله ما شأنكم ... ... إلى متى في ديننا نرضى الدنا
إلى متى نعجز عن حقوقنا ... ... إلى متى يسومنا الضيم العدا
كنا اباة الضيم لا يقدح في ... ... صفاتنا الذل ونقدح الصفا؟
كنا حماة الأنف لا يطمع في ... ... ذروتنا الطامع في نيل الذرى
لا يطرق الوهن عماد مجدنا ... ... وكم مللنا عرش مجد فكبا
علام(1) صرنا سوقة امعة
... اتبع من ظل واقنى من عصا؟!
ما أفظع الشنار حين يزيله ... ... ضرب يزيل الهام من فوق الطلى!
إلى متى نخزى ولا يؤلمنا ... ... كالميت لا يؤلمه حز الشبا؟!
اذل من وتد حمار فيهم ... ... وقدرنا اقصر من ظفر القطا
إلى متى نهطع في طاعتهم ... ... ونتقي وليتها تجدي التقى؟!
(1/3)
ترون كيف صور حال الأمة في هذه الأبيات, عندما أحدقت بها المحن وتراكمت عليها الفتن, وهي في ذلك مفترقة أحزابا وشيعاو لا تحس بالآلام التي تقع عليها ولا تحس بالواجب الذي هي مسؤولة عنه, ثم يتبع ذلك خطابه لهذه الأمة لعله يجد فيها أنشودته.
أين ذوو الغيرة من لي بهم ... ... قد حزب الأمر قد انقد السلا؟!
اتسع الخرق على راقعه ... ... من يشعب الوهى ويرتق الثأى
أما شعرتم أنها داهية ... ... شعواء لا فصية منها بألولى
هبوا من النومات أن حية ... ... تنباع ما بين شرا سيف الحشا
ويصف الحالة التي آلت اليها الأمة, حيث ذلت لخصومها واستكانت لعدوها:
هل استباحوا حرمات دينكم ... ... هل منعوا الأرض الحياة والحيا؟!
منوا عليكم بغذاء طفلكم ... ... وحسوة الماء ونفحة الصفا
تحكموا في ملككم ورزقكم ... ... وكبسوا البئر وقطعوا الرشا
وأزعجوكم عن ظلال ريفكم ... ... وليتكم لن تنزعجوا عن الفلا
وضايقوكم في بلاد ربكم ... ... حتى على مدفن ميت في الثرى
لا يرقبون فيكم إلا ولا ... ... ذمة دين أو ذمام من رعى
قد سفكت دماؤكم وانتهكت ... ... حرمتكم ولا حشا ولا خلا
نقعد يشكو بعضنا لبعضنا ... ... وما مفاد من شكا ومن بكى؟!
ثم يقول:
في بعض هذا غصة(1) لعاقل
... لو رجعت أفكارنا إلى النهى
بسومنا الخسف خسيس ناقص ... ... لا دين لا حكمة لا فضل ولا
أليس مما يذهل اللب له ... ... عسف الطواغيت بشرع المصطفى
وحملنا على اتباع غيهم
هب ملكنا ورزقنا فيء لهم ... ... مصيبة لحرها ذاب الحصا
فديننا الأقدس فيء وجزى
فيا صاحباه هل من سامع ... ... لو عوفيت قلوبنا من العمى!
ويتبع ذلك تقريع هذه الأمة على رضاها بما وصلت إليه من المهانة إذ يقول:
أليس عارا أن نعيش أمة ... ... مثل اللقا أو غرضا لمن رمى؟!
يلفناالخزي إلى أوكاره ... ... ويحكم النذل علينا ما يرى
أنشرب الماء القراح ما بنا ... ... من مضض وليس بالحلق شجا؟!
ونهنا بالعيش على أكداره ... ... ونطعم الأجفان لذات الكرى
(1/4)
ثم يذكر بعد ذلك اعتزاز هذه الأمة بأسلافها وافتخارها بماضيها مع عدم سلوك منهج أولئك الأسلاف, والقيام بما قاموا به من حق تكاه دينهم وتجاه أمتهم إذ يقول:
نقر أحلاس البيوت خشعا ... ... أبصارنا مغمضة عما دهى
ندرس تاريخ الألى تقدموا ... ... وحسبنا الله تعالى وكفى
أن العظام لا تواتي شرفا ... ... ولا أقاصيص الوغى تكفي الوغى
والسلف الصالح سل سيفه ... ... وكان ما كان له ثم انقضى
تلك الرفات طينة صالحة ... ... لغارس وحارث ومن بني
أتبحثون بينها عن عزة ... ... أو في (لعل) فرجا أو في (عسى)؟!
تلكم إذا أمنية مخلفة ... ... وضيعة العقل وجهل وعمى
ثم ذكر ما بقي لهذه الأمة من أسلافنا:
أسلافنا وما لنا من مجدهم ... ... إلا حديث بعدهم لا يفترى؟!
لم التحجي بعدهم في شرف ... ... عند رفات في الأرض حجى؟!
نرفع منا أنفسنا(1) وننتحي
... كأنها من كسبنا تلك النخا!
وهو يشير بذلك إلى أن الأمة يجب أن تبني مثل ما بنى سلفها, وألا تعتز بما قدم سلفها من غير أن تطأ موطئه وتنتهج نهجه, وتقوم بتبعات ما عليها من واجب تجاه جميع أفرادها كما تقوم بما عليها من واجب تجاه ديننا الحنيف ثم يتبع ذلك قوله:
أواه أواه رزئنا بعدهم ... ... وليتنا في خلف عمن مضى؟!
ثم يصف مرة أخرى حالة هذه الأمة في لهوها عما هي مسؤولة عنه, وفي غفلتها عما يحيق بها, وفي عدم احساسها بما وقعت فيه, وما يسري في جثمانها من آلام.
فتحت عيني فرأيت غافلا ... ... يحمله السيل وليته درى
ونائما والنار في جثمانه ... ... كأنه جزل الغضا وما وعى
وراضيا بذله مفتخرا ... ... بأن يعيش خازيا ومزدري
ومؤمنا مستضعفا يغمزه ... ... ظالمه من الرجا إلى الرجا
وعاقلا في رأيه متهما ... ... وأرشد الآراء للحر الذوى(1)
وحاسدا لنعمة تخاله ... ... اسعر ما كان إذا قلت خبا
وبائعا لوطن فيه انتشى ... ... بلقمة يلذها وهي الودى
فهل لنا استقامة وعزة ... ... وحالنا مشؤومة كما نرى؟!
بعد هذا الوصف لألم هذه الأمة وآلامها نجده يقدم وصفة الدواء إليها إذ يقول:
(1/5)
عصائب الإسلام في تلكم حالنا ... ... وليس يخفى في الظلام ابن جلا
ما تنظرون في التماس طبكم ... ... قد نكأ الجرح وادنف الضنا
ليس لها إلا التفاف قوة ... ... بقوة ومقتد بمقتدى
ليس لها إلا نفوس طفئت(2)
... اضغانها واشتعلت فيها التقى
يلمها الإيمان قلبا واحدا ... ... وجهته الله وحشوه الهدى(3)
إذا رمت فقوسها واحدة ... ... وما رمت وإنما الله رمى
فأبو مسلم من خلال هذا الوصف لعلاج هذه الأمة يبين لنا أنه لا يمكن خلاصها مما هي فيه وعليه من الذل إلا باستعلائها على أنانيتها, بحيث تكون أمة واحدة, إذا رمت فإنما ترمي عن قوس وأحدة, ومع ذلك فلحمة وحدتها إيمانها بالله- سبحانه وتعالى-, وسدي هذه الوحدة تقوى الله- تبارك وتعالى-, بحيث تجتمع في ظل الإيمان والتقوى وتلتقي على امر الله- سبحانه وتعالى- في ديننا من الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, حينئذ تكون أمة قوية, وتكون أمة منصورة على عدوها.
ولم يكن أبو مسلم رجلا محليا وأقليميا وإنما كان رجلا عالميا, فحيثما كانت مشكلة تهم هذه الأمة كانت تلك المشكلة تعني أبا مسلم, وكان يجد لزاما عليه أن يشارك في علاجها فعندما حاول الاستعمار في مصر أن يذكي جذوة النعرة القبطية في غير المسلمين, وأن يصور لهم بأن الإسلام دخيل فيهم وأن مصر قبطية نصرانية, وأن المسلمين هم الذين احتلوا بيضتهم وهم الذين استهانوا بكرامتهم, وضايقوهم في بلادهم, وانعقد اثر ذلك مؤتمر إسلامي برئاسة رياض باشا في مصر لعلاج هذه المشكلة ومواجهة ذاك التحدي, فما كان من أبي مسلم وهو بعيد عن مكان انعقاد هذا المؤتمر إلا أن شارك فيه بقلمه, فأرسل قصيدة إلى أخوانه المسلمين بمصر, وقد قرأت بأن هذه القصيدة نشرت في بعض الصحف المصرية آنذاك, وتلقيت بالقبول من قبل المسلمين الذين يعنيهم هذا الأمر, وجاء في هذه القصيدة:
هزت العالم أدوار البشر ... ... ينقضي الدور بأدوار أخر
كل دور رقص الدهر له ... ... ضايق العالم وارتاد القمر
(1/6)
أيها العالم سعها جلدا ... ... أن نصف الليل يتلوه السحر
من كفيل الكشف عن موضوعهم ... ... هل له مستودع أو مستقر؟
أن تكن فلسفة الدهر على ... ... حدها الأول أدركنا الخطر!
يسقط الهز علينا كسفا ... ... ثم لا يلبث اسقاط الحجر
ربما أشهد ظبيا كانسا ... ... دب فيه الدور فاصطاد النمر
ثم ينبه لخوانه المصريين المسلمين لخطورة هذا الأمر وخطورة ما غرسه العدو في جزء من أبناء الشعب المصري من بغض لبقية الشعب, إذ يقول
يا قطين النيل ما حادثة ... ... بات جفن الدين منها في سهر!!
أقلقت مصر وغاظت غيرها
يا لقومي والأسى كل الأسى ... ... خطة القبط وذاك المؤتمر
إن جرى النيل على هذا القدر!!
ضايقوكم في المراعي مطلقا ... ... واشرأبوا لاختصاص واشر
طلبوا أعظم من مقدارهم ... ... شأن من أكسبه العدل البطر
ثم يتساءل بعد ذلك:
ليت شعري ما الذي أبطرهم ... ... ضغطة الرومان أم عدل عمر؟!
أم وصايا المصطفى في حقهم ... ... ان ملكناهم وسعناهم ببر
أم لصفح الدين عنهم بعدما ... ... جيش نابليون ولانا الدبر
تبعوا نعقته وانجفلوا ... ... نحوه أشباه ضان وبقر
ثم لما صننع الله لنا ... ... وجلى الخصم وابنا بالظفر
خالطونا بضمير محرق ... ... وبصدر فيه ضب محتجر
فاصطنعناهم وقلنا جارنا ... ... واذى الجار جميل المصطبر
هذه سيرتهم حيث انجلت ... ... قترة جاءوا بادهى وأمر
ثم يخاطب بعد ذلك ضمير الأقباط ويذكرهم بالجوار, كما يذكرهم بالحقوق المشتركة, وأن العدو يتربص بالكل الدوائر وهو لا يفرق بين مسلم ونصراني, وإنما همه أن يسعى إلى التفريق بين أبناء الوطن الواحد.
ان هذا النيل أم حافل ... ... كلنا يرضع منها ويذر
فغدت حافلنا ترضعها ... ... حية أشبه شيء بسقر
رضعتها لبنا ثم دما ... ... واغتبطنا بمشاش ووبر
وهي لا يقنعها ما ترتمي ... ... لا ولا يقنعها بلع الحجر
ذكرتنا بعصا موسى على ... ... أن ذي تلقف أرواح البشر
ثم يذكر ما يستفيده الآخرون من خيرات مصر فيقول:
نيلنا في الغرب يجري ذهبا ... ... وبقينا نترامى في الحفر
أن يكن جيش احتلال غركم ... ... فهي أمنية من لا يفتكر
(1/7)
ما يريد الجيش احتلال غركم ... ... بعدما أبقى عصاه واستقر؟!
عقد النير وما في همته ... ... آمن المصري.. يوما أم كفر
جاء والمعية تلوي معيه ... ... فامترى ثم تعاطى فعقر
طمت الحرفة يا أقباطها ... ... إنها مأدبة لا تنتقر
أصبح المطران والمسلم في ... ... غمرها اعجاز نخل متقعر
فاشعبوا الوحدة وحيا قبل أن ... ... تتداعى كهشيم المحتضر
ثم بعد ذلك يثني على أولئك الذين استيقظوا لهذا الأمر وسعوا رأب الصدع, وتدارك ذلك الخطر فعقدوا هذا المؤتمر إذ يقول:
إن في مصر رجالا عرفت ... ... كيف تأتي الأمر أو كيف تذر
لا تبارون لهم مأثرة ... ... ولو احتلتم على كسف القمر
صعدوا في كل هم فكرهم ... ... فاقتنوا حكم ابتداء وخبر
اثر الحكمة فيهم نير ... ... كادت الأفلاك منه تنبهر
مثلوا غيرتهنم مؤتمرا ... ... ينصر الله ونعم المؤتمر
وطئوا الآمال بالدرك الذي(1)
... ادركوه من تعاليم النظر
لا يبيتون على الضيم ولا ... ... حيرة الذهن إذا الخطب انفجر
يهيمون بواد مبهم ... ... هم إلى التحقيق أهدى من بصر
يا بني التوحيد في مصر لقد ... ... صرتمو في جبهة الدهر غرر
صبغة الله على نهضتكم ... ... أن من كان مع الله انتصر
بيئة مخلصة صادق ... ... لم يدنسها رياء واشر
فخذوا وجهتكم واصطقروا ... ... لا ينال النجح إلا من صبر
ثابروا جهدكم لا تسأموا ... ... قد بدا لي فتح أمر منتظر
ربما ضاق على حيلتنا ... ... اعقب الفتح كلمح بالبصر
وإذا الفتح تلافى أمة ... ... جد في نهضتها أهل الخطر
صفوة الأمة أنتم وعلى ... ... أمركم صفوة أرباب النظر
بطل الإسلام قمقام العلى ... ... رجل المجد الهمام المقتدر
ناصح الحجة معصوم النهى ... ... جلد الهمة ذو العزم الذمر
صاحب العز رياض من غدت ... ... فطرة التوحيد منه في وزر
هضبة الفضل عزيز المحتمى ... ... شأنه العدل بما شاء وسر
جرد الغيرة من أجفانها ... ... فحمى الحق وأخرى من غدر
عصم النحلة مرهوب السطا ... ... لين الجانب صعب المنكسر
يا حمي الأنف يال ليث الثرى ... ... ذد عن الحوض فقد جد الحذر
لا تدع مصر لمن يعشو بها ... ... غير ما عزك من أمر القدر
(1/8)
قائم أنت على أرجائها ... ... بملاك الأمر والحق الأغر
قم بحول الله لا تحفل بها ... ... رقصت أم سكنت أم العبر
ثم يعبر بعد ذلك عن شعوره بالتقصير من نفسه تجاه هذا الأمر لأنه لا يملك إلا هذا الذي يقدمه من الأدب, إذ يقول:
بو يكون الشعر نصرا لم أزل ... ... انظم الانجم لا أرضى الدرر
لو ملكنا السيف لم نرجع إلى ... ... قلم في النصر دن قام عثر
والغيور الحر يبدي نصره ... ... لأخي ملته كيف قدر
فخذوا شعري ثناء بعدما ... ... مدحت نهضتكم آي السور
وليدم حيا رياض وليعيش ... ... تابث العزة هذا المؤتمر
وفي هذا ما يدل- كما قلت- على أن أبا مسلم لم يكن رجلا محليا أو رجلا اقليميا, وإنما كان رجلا عالميا يعني بقضايا أمته في كل مكان ويتحسس آلامها ويشاركها في آمالها.
وبجانب هذا الإهتمام الكبير بقضايا الأمة الإسلامية في كل مكان فإنه كان يولي قضايا بلده عمان اهتماما خاصا وكان يعتز بجميع المنجزات التي يقدمها الشعب العماني الأصيل, ويبدي شوقه في أشعاره إلى هذا الوطن العريق ومما قال في ذلك:
معاهد تذكاري سقتك الغمائم ... ... ملثا متى يقلع تلته سواجم
تعاهدك الأنواء (سح) بعاقه(1)
... فسوحك خضر والوهاد خضارم
إذا أجفلت وطفاء حنت حنينها ... ... على قنن الأوعار وطف روازم
ولا برحت تلك الرياض نواضرار ... ... تضمخها طيب السلام النسائم
تصافحه بالزاكيات أكفها ... ... فيحسب فيها والرياض تراجم
إلى أن قال:
ولكن شجاني معهد بان أهله ... ... فبان الهدى في أثرهم والمكارم
هو العهد الميمون أرضا وأمة ... ... وان زمجرت للجور حينا زمازم
سيكثر ورادا على الحوض أهله ... ... إذا جاء يوم الحشر والكل هائم
لقد صدقوا المختار من غير رؤية ... ... وتكذيب جل الشاهدين مقاوم
(1/9)
وكان أبو مسلم لا يخفي اعتزازه بالمنجزات التي تحققت على أرض هذا الوطن الأصيل, فعندما قرأ قصيدة لأحد الشعراء لام فيها أخوانه العرب على نومهم الطويل مع استيقاظ العالم الغربيو في ضوء التقدم في كل المجالات الحضارية في العالم الغربي, انبرى أبو مسلم يجيب هذا اللائم, ويدفع العار عن العرب, ثم يعتز بعد ذلك ببلده عمان, وبما تم في عمان من المنجزات التي هي لصالح الإسلام والمسلمين, وكانت تلك الإجابة على نفس روي قصيدته وبحرها حيث قال في مطلع قصيدته:
ألا لبيك يا صوت المعالي ... ... لقد أسمعت أحياء الرجال
أحابك سادة نجب كرام ... ... طوال العزم بالبيض الطوال
خفاف كالصواعق أن يشدوا ... ... جبال في حلومهم الثقال
معاقلهم جياد فنقوها ... ... مسارحهن حومات النزال
تعلمن التقارع من قديم ... ... فهن مع التقارع في شكال
فإن تسأل بهم فهم سراة ... ... تربوا بين قيصوم وضال
رضاع وليدهم بدم الأعادي ... ... ويحيى في الرضاع بلا فصال
إذا استصرختهم شبوا سعيرا ... ... وصخ النجم قعقعة النصال
مساعير الحرب لهم أجيج ... ... إذا احتدمت حميات الرجال
مصاعب تصعق الأبطال منهم ... ... رغائبهم بأطراف العوالي
إذا هجموا رأيت الفجر يجري ... ... ببارقة الصوارم في الليالي
تروعك في زحرفهم رجوم ... ... من السمر المثقف والنبال
ججاجح من بني قحطان صيد ... ... ومن عدنان آصاد القتال
رأوا ما حل بالأوطان خزيا ... ... يسارع بالفظايع والوبال
إلى أن قال بعد ذلك:
وخصم الله جزار شنيع ... ... يضحي بالديانة لا يبالي
رأوا أموالهم نهبا هنيئا ... ... وكل محرم عين الحلال
ثم يتوجه إليه بالدعوة لزيارة عمان فيقول:
تفضل بالزيارة في عمان ... ... تجد أفعال أحرار الرجال
تجد ما شئت من مجد وفضل ... ... واحساب عزيزيات المثال
تجد ما قسمته من المنايا ... ... خيول الله في حزب الضلال
تجد من هيبة الإسلام شأنا ... ... عليه الكفر مبيض القذال
تجد ههم الرجال مصممات ... ... بثار الدين ترخص كل غال
ثم يخاطب أهل الشرق فيقول
سناخذ حقكم ونذود عنكم ... ... ذيادا باليمين وبالشمال
(1/10)
ويدرك فهمكم أنا قليل ... ... نكاثر بالحميد من الخلال
وتعترفون أن العرب قوم ... ... قديما عبدوا صهب السبال
وقد وافاكم زمن جديد ... ... ووافتكم به السنن الخوالي
يرد الحق فيكم مشمخرا ... ... ويخزي الظلم خزي أبي رغال
بأسياف الغبيراء المواضي ... ... ستخضر الأسافل والأعالي
ويعلم عالم الدنيا بأنا ... ... بضوضاء الفخافخ لا نبالي
... ...
... ...
- وكما قلت- كان أبو مسلم في جميع إبتهالاته إلى الله- تبارك وتعالى- لا ينسى جانب الأمة ووحدتها ونصرتها على عدوها وقد وجد في قصائد العلامة سعيد بن خلفان الخليلي- رحمه الله- مثلا يحتذى في ذلك, فلذلك عني بتخميس كثير من قصائد الالهيات, ومن بين هذه القصائد تلك القصيدة التي كان المحقق الخليلي- رحمه الله- يدعو بها ربه مدة اثنى عشر عاما- كما قيل- وقد خمسها أبو مسلم, ومما جاء في تخميسها مما يتعلق نصرة الدين- وكلها من أجل نصرة الدين ومن أجل وحدة الأمة- قوله:
... الهي عدو الله يشفي غليله ...
... سبيلك يدنيها ويعلي سبيله ...
... يغالب أمر الله حتى يحيله ...
فيا غارة الله اغضبي وخيوله ... ... إركبي ومواضيه انعمى بورود
... ودائرة السوء استمري بدورة ...
... عليه ومقت الله خذه بسورة ...
... ويت بطشه الله اسحقيه بثورة ...
ومني على الأعداء منك بزورة ... ... تريحهم من كفرهم بلحود
... ومزقهم الله كل ممزق ...
... بأهلك غلبا فيلقا بعد فيلق ...
... ونكل بهم وامحقهم بالتفرق ...
ويارب مزق كل سور وخندق ... ... عليهم وحصن شامخ ووصيد
... طغوا في بلاد الله لما تطقهم ...
... وتغييرك اللهم لم يعتنقهم ...
... وإنك بالمرصاد خذهم وبقهم ...
وقد مكروا فامكر بهم واذقهم ... ... عواقب مكر في البلاد شديد
... لقد وطئوا الدنيا برجس مرجس ...
... وعاثوا بظلم في عبادك مضرس ...
... شياطين ملعونين من كل مبلس ...
فطهر بقاع الأرض منهم بأنفس ... ... من البغي تجريها بكل صعيد
... الهي قبيل جاحد لك قد غوى ...
... يعاديك لا يألو على عربك انطوى ...
... ابده ومن والاه وحيا وما حوى ...
وشرد بهم في كل أرض فلا سوى ... ... قتيل ومأسور يرى وطريد
... بغيرتك اللهم يا حامي الحمى ...
(1/11)
... بسطوتك اللهم يا رافع السما ...
... سميع دعائي كن عليهم مدمدما ...
وصب عليهم سوط منتقم كما ... ... لعاد وفرعون جري وثمود
... وعذبهم نكر العذاب ودنهم ...
... وشدد عليهم وطأة وإهنهم ...
... وعن كل خزي ربنا لا تصنهم ...
ولا تبق ديارا على الأرض منهم ... ... فما قوم نوح منهم ببعيد
ومن غرائب الإتفاق أن هناك قصيدة للإمام سعيد بن خلفان- رحمه الله تعالى- من قصائد الألهيات تناولها أبو مسلم- رحمه الله- بالتخميس قبيل موته ببضعة أيام, ولربما كانت فاتحة تلك القصيدة اسارة بأن أبا مسلم بتخميسها يقدم نفسه إلى ربه, ومطلع قصيدة الإمام الخليلي- رحمه الله تعالى-:
تقدم إلى باب الكريم مقدما ... ... له منك نفسا قبل أن تتقدما
أما مطلع تخميس أبي مسلم فهو:
... هو الله فاعرفه ودع فيه من وما ... ... دعاك ولم يترك طريقك مظلما
... عن الحق نحو الخلق يدفعك العمى ... ... تقدم إلى باب الكريم مقدما
... لك منه نفسا قبل أن تتقدما ... ...
وقد وجدنا بخط العلامة أبي مسلم أنه أنهى تخميسها في اليوم الثامن والعشرين من محرم, وقد كانت وفاته ليلة غرة صفر من نفس ذلك العام, بما يعني أن تمام تخميسها كان قبل وفاته بيومين وبعض يوم, أو بيوم وبعض يوم.
(1/12)
ولئن جئنا إلى الجانب العلكمي ولا أقول الجانب الفقهي من حياة أبي مسلم, نجد أن أبا مسلم هو العلامة الذي لا يشق له غبار, وإنما قلت الجانب العلمي لأن أبا مسلم درس علوم المعقول والمنقول, فكان نابغة في العلوم الكثيرة, ولم يكن مقتصرا على علم الفقه فحسب, فهو في علم التوحيد والمذاهب الكلامية عالم كبير, كما أنه في الفقه فقيه مطلع محقق وله في المسائل الكلامية تحقيق بدل على طول باعه في كثير من المسائل, من بين هذه المسائل, مسألة شغلت الناس كثيرا وتراشقوا بسببها بالتهم وهس مسألة واضحة لا تحتاج إلى النقاش الطويل, ولا تحتاج إلى ذلك الجدل العريض, تلكم هي مسألة الأسماء والمسميات, فإن أصحاب المذاهب الكلامية اختلفوا اختلافا طويلا وعريضا في الأسماء والمسميات, هل الأسماء هي عين المسميات؟ أم الأسماء هي غير المسميات؟ وقد أشبع أبو مسلم هذه المسألة بحثا وتمحيصا في كتابه " العقيدة الوهبية" وقد وضع فيها المفصل على الفصل, وأوضح بالحجة والبرهان بما لا يحتمل أي جدل وأي خلاف.
خلاصة الأمر أن الذي ذهب إليه العلامة أبو مسلم هو نفسه الذي حرره العلامة الكبير السيد محمد رشيد رضا في تفسيره ( المنار) وهو أن الأسماء التي هي الألفاظ المكتوبة من الحروف هي غير المسميات بطبيعة الحالو فلا يمكن أن يكون الأسم هو المسمى, إذ لو كان الإسم هو المسمى لكان من تلفظ بكلمة (ماء) وهو عطشان, جرى الماء على حلقه وروي من عطشه, وكذلك إن تلفظ أحد بكلمة (نار) احترق لسانه بمجرد هذا التلفظ, لأن النار محرقة ولكن أعيان المسميات هي غير الأسماء, وإنما مدلولات الأسماء هي عين المسميات لأن الإسم يدل على المسمى, فإذا كان المدلول الذي يشخصه الإسم هو نفس المسمى فلا فارق بين مدلول الإسم وبين المسمى.
(1/13)
وقد وجدت الإمام محمد عبده في تفسيره لقول الله تعالى? وعلم آدم الأسماء كلها? يذكر عن بعض المفسرين قولا، بأن تلك الأسماء كانت هي الماهيات ، ماهيات الأشياء.
فإن آدم كان أحوج إلى معرفة الماهيات خصائصها وهذا القول عار عن الدليل فإن آدم- عليه السلام- سئل عن هذه الماهيات، ما أسماؤها فأجاب بهذه الأسماء عندما عجزت عن ذلك الملائكة، وقد أعاد الإمام محمد عبده هذا الاختلاف الى فلسفة يونانية قديمة، هذه محصلها أن الحقائق الذهنية كانت تسمى عند اليونان أسماء، وأعاد الإمام محمد عبده الخلاف بأن الأسماء هي المسميات إلى هذه الفلسفة وقال بأن الإختلاف في كون هذه الحقائق الذهنية هي نفس مدلولاتها أو هي أشياء أخر شهير، أما الاسم فلا يمكن بحال من الأحوال أن يكون هو نفس المسمى.
وإذا جئنا إلى المسائل الفقهية نجد أن العلامة أبا مسلم كان العالم المحقق الذي لا يتقيد برأي عالم من العلماء بل يناقش جميع العلماء على السواء فقد كان أبو مسلم يجل العلماء ويحترمهم احتراما كبيرا، ولكن هذا الاحترام لم يمنعه من أن يناقشهم.
(1/14)
فعندما جاء- مثلا- الى مسألة تخليل اللحية في الوضوء رجح بأن تخليل اللحية واجب لابد منه مع أنه ذكر بنفسه عن ابن بركة وعن صاحب الايضاح وعن الإمام القطب أنهم كانوا يرجحون عدم عدم وجوب تخليل اللحية لأن الإنسان مطالب بأن يغسل ما واجه به،وتنما يواجه بوجهه لا بما كان داخل شعره، ولكن العلامة أبا مسلم قال: إن الوضوء ليس أقل من الغسل- فكما يجب استيعاب العضو داخله وخارجه في الغسل كذلك يجب في الوضوء فاذا كان استيعاب البدن كله لازما في الغسل، فلا أقل من أن يستوعب العضو الذي تجب توضئته في الوضوء، واستدل على ذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر النساء بأن يخللت ضفائرهن في الغسل من الحيض وأن يغمرن قرونهن في الغسل من الجنابة من أجل أن يصل الماء إلى أصول الشعر وقد قال- عليه أفضل الصلاة والسلام-:" إن تحت كل شعرة يغطي جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشر" فاذا من الضروري في الوضوء عندما يكون الشعر مغطي جانبا من الوجه الذي أمر بتوضئته أن يخلل ذلك الشعر حتى يصل الماء إلى أصوله.
هناك مسألة أخرى وقع فيها الخلاف بين المذاهب الإسلامية من قديم وهي مسألة المني وطهارته أو نجاسته، فالشافعية والحنابلة يقولون بأن المني نجس لأنه يخرج من المخرج الذي تخرج منه النجاسات ، فإذا لابد من أن يكون حكمه حكم الخارج من هذا المخرج ، والإماما الشافعي أشبع هذه المسألة بحثا في كتابه " الأم" وانتصر به لمذهبه.
(1/15)
والعلامة أبو مسلم في كتابه" نثار الجوهر" يجمع أشتات المسائل من المؤلفات القديمة والحديثة في مختلف المذاهب الاسلامية ويناقش هذه المسائل مناقشة دقيقة وقد نقل كلام الإمام الشافعي بنصه وفصه في كتاب" نثار الجوهر" أي نقل النصوص التي أوردها الإمام الشافعي في كتابه" الأم" بحذافيرها، ثم أتبع ذلك مناقشة علمية دقيقة وخلاصة الأمر أن الإمام الشافعي يقول: بأن حكم المني يختلف عن حكم ما خرج من السبيلين فللمني حكم خاص ويستدل لذلك بأدلة عقلية ونقلية.
فمن الأدلة النقلية التي استدل بها ما جاء عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- إنها قالت: " كنت أفرك ثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الجنابة" وتعرض الإمام الشافعي لرواية سليمان بن يسار لهذا الحديث, إذ روى عن عائشة " كنت أغسل ثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الجنابة ويخرج إلى الصلاة وأن بقع الماء في ثوبه" وقال: لا نعلم أن سليمان ابن يسار روى حرفا عن عائشة, وإنما هو وهم من الراوي عنه, عمرو بن ميمون.
وهذا الكلام الذي ذكره الإمام الشافعي في رواية سليمان بن يسار تبعه عليه البزار, كما ذكر ذلك الحافظ بن حجر في فتح الباري ولكن الحافظ بن حجر بعد ما ذكر نصوص الرواية, رواية سليمان بن يسار عن عائشة – رضي الله عنها- في الصحيحين قال: بأ، هذا وهم, ولم يهم البزار وحده بل قال هذا القول من تقدموه ومن بينهم الإمام الشافعي في كتابه "الأم".
واستدل أيضا على ذلك بما أخرجه هو عن أبن عباس- رضي الله عنهما- أنه ذكر بأن المني أن كان يابسا يحت وإن كان رطبا فيماط عن الثوب.
واستدل أيضا برواية تشبه هذه الرواية عن سعد بن أبي وقاص.
(1/16)
أما من الناحية العقلية فإنه استدل لذلك بأن الله- تبارك وتعالى- خلق أصل الإنسان من ماء وطين, والماء والطين طهوران جعلهما- تبارك وتعالى- طهورين, فلا يعقل أن يكون خلقه لسلالة هذا الإنسان فيما بعد من غير شيء طاهر, واحتج لذلك أيضا بكرامة الإنسان على الله- تبارك وتعالى- لأنه أكرم من أن يخلق هذا الإنسان الذي شرفه بالخلافة في هذه الأرض وبالسيادة في هذا الكون, وجعله مؤتمنا على دينه وجعله قائما بأمره- سبحانه وتعالى- من مادة نجسة, هذه هي خلاصة ما استدل به الإمام الشافعي.
وقد أطال العلامة أبو مسلم في مناقشة هذا الكلام واستدل أو ما استدل بنجاسة المني في الحديث الذي أخرجه الإمام الربيع في مسنده عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " المني والوذي ودم الحيضة ودم الاستحاضة نجس" فهذا النص صريح في نجاسة المني.
كما استدل ذلك برواية سليمان بن يسار التي في الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها- إنها قال: " كنت أغسل ثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الجنابة, ويخرج إلى الصلاة وان بقع الماء في ثوبه".
وقال بأن رواية الفرك لا تنافي رواية الغسل لأنها كانت تستعين على ازالة هذه النجاسة, بالفرك أولا عندما يكون المني يابسا في الثوب فإنها تحته أي تفرك الثوب حتى يزول أثر المني ثم تتبع ذلك الغسل بالماء.
وقال: إن ما قاله الإمام الشافعي من أن سليمان بن يسار لم يرو حرفا عن عائشة- رضي الله عنها- أمر غريب لأن ابن يسار كان من أكابر التابعين, وقد كان بالمدينة المنورة وقد صرح بالسماع عن عائشة فهو تارة يقول (سألت عائشة, وتارة يقول ( سمعت عائشة), فهو إذا روى رواية متصلة من غير سقط, على أن هذه الرواية كانت رواية مرسلة, فإن المرسل عندما يعتضد بدليل آخر يعول عليه عند الإمام الشافعيو ولذلك عول مسانيد سعيد بن المسيب.
(1/17)
وتحدث عما رواه الإمام الشافعي عن ابن عباس من أنه قال: بأن المني يماط, وقال: إنما هو بمثابة المخاط النخامة, وبأن هذه الاماطة إنما هي وسيلة إلى التطهير كما يقول الاستجمار وسيلة إلى التطهير بالماء فيما بعد, وليست مشروعية الاستجمار قبل الماء إلا لأجل هذه العلة والتشبيه بالمخاط والنخامة لما ينتظم هذه الأشياء المشبه بعضها ببعض من التلبد, فإن المخاط والمني شبيهان بالتلبد وكذلك النخامة بالجملة.
وقد أشبع أبو مسلم هذه المسألة بحثا واستدل لذلك أيضا بالأثر الذي أخرجه الإمام مالك بالموطأ عن عمرا بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه ذهب إلى الجرف, وقد صلى الصبح وإن قد احتلم ولم يشعر وصلى ولم يغتسل, فلما رأى ذلك الاحتلام هناك غسل ثوبه ونام أي غسل ما رأى أثر المني عليه, ونضح ما لم ير عليه أثر المني.
كما استدل أيضا لرجحان رأيه بالأثر الذي أخرجه مالك أيضا في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حافظ أنه صحب عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- إلى العمرة فاحتلم ولم يكن على ماء فركب حتى وصل إلى الماء, وبقي وقتا يغسل ثوبه حتى أسفر وناداه عمرو بن العاص: لقد أصبحت ومعنا ثياب, فقال له: عجبا منك يا أبن العاص: إن كنت أجد ثيابا, أكل الناس تجد ثيابا؟ لو فعلت هذا كانت سنة ولكن أغسل ما رأيت وأنضح على ما لم أره, إلى غير ذلك من الأدلة.
ثم تحدث عن مبدأ خلق الإنسان من هذه النطفة فقال: إن الله- تبارك وتعالى- وصف هذه النطفة التي خلق منها الإنسان بأنها ماء مهين, ووصفها بأنها نطفة أمشاج وذلك أبلغ في الدلالة على حقارتها, وذلك أبلغ في الدلالة على قدرة الله- تبارك وتعالى-.
(1/18)
وأيضا فإن الإنسان ينطوي على كثير من الأشياء التي هي أنجاس فدمه نجس وفضلاته نجسهو كذلك أيضا أن كانت نطقه الرجل طاهرة, فلم بقل أحد في نطقه المرأة بطهارتها, على أن مرقد الانام في الرحم عندما ينشأ, والرحم مشتمل على النجاسة ولكن الله- تبارك وتعالى- شرفه بما آتاه من فضل وبما نفخ فيه من روح.
وتعرض العلامة أبو مسلم لكثير من القضايا فأشبعها بحثا في كتابه " نثار الجوهر" ومن بين هذه القضايا التي ناقش فيها العلماء قضية التفرقة بين الضاد والظاء (الظاء المستطيلة والضاء المشالة) فإن الإمام الفخر في تفسيره قال: لا يجب أن يفرق بينهما القارئ وأن لم يفرق بينهما في صلاة لما كان عليه في صلاته بأس, ولقد تشدد أبو مسلم اجاه هذا الأمر وقال: با، الضاد وأن كانت تجتمع مع الظاء في مجموع من الصفات منها الجهر والاطباق والرهو والجرسية, ولكن بجانب ذلك أيضا تختلف الضاد عن الظاء في المخرج, فالضاد من الحروف الشجرية والظاء من الحروف اللثوية كما إنها تختلف عنها بكون الظاء مستطيلة والضاد ليست من حروف الاستطالة.
ويجب على الإنسان أن يقرأ القرآن كما أنزل من غير أن يبدل حرفا بحرف, ثم بجانب ذلك ذكر أيضا كلاما لإمام السالمي من أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يعلم أصحابه القرآن كان يعلمهم النطق بهدذه الحروف, والشعوب التي دخلت الإسلام تلقت النطق بهذه الحروف كما هي, وذلك داخل في تعريف القرآن.
وقال: بأن هذا الرد غير مسلم به نظرا لأن العرب كانوا أقحاحا يتحدثون بالعربية بسليقتهم وبفطرتهم, ولم يكونوا بحاجة إلى أن يعرفوا الصفات الفارقة ما بين هذه الحروف.
(1/19)
ومعظم الصحابة- رضوان الله عليهم- كانوا من العرب فإذا كانوا عندما يتلقون القرآن عن الرسول-صلى الله عليه وسلم- كانوا يقرأونه بسيليقتهم العربية, والشعوب التي كانت تتعلم على أيدي العرب, بعدما دخلوا في الإسلام كانوا يلقنونهم النطق بهذه الحروف ولئن كانوا يلقنونهم التفرقة ما بين بقية الحروف الأخرى التي هي متقاربة في المخرج- فكيف لا يلقنونهم التفرقة ما بين الضاد والظاء فاشبع هذه المسألة بحثا.
أيضا مسألة ترجمة القرآن الكريم, وقراءة القرآن الكريم باللغة الفارسية أشبعها بحثا وناقش كلام الحنفية, وذكر أن القرآن الكريم لا يمكن أن تفي به لغة, فلغته الخاصة- هي التي أنزل الله- تبارك وتعالى- بها, ولا يمكن أن يكون أي كلام آخر بأي لغة أخرى يسد مسد القرآن الكريم, فلو حاول الإنسان أن يستخلص المعاني من الفاتحة الشريفة, ويقرأ قراءة غير هذه الآيات التي أنزلها الله مع الاستيعاب لتلك المعاني لا يمكن أن يقال بأنه قرأ, ولو قرأها بعربية فصيحة فكيف أن انتقل من العربية إلى لغة آخرى, على أن الله- تبارك وتعالى- بين أنه حكم عربي, وأنه- سبحانه- جعله قرآنا عربيا وأنزله قرأنا عربيا فإنه لا يعدل عن العربية إلى أي لغة أخرى, وقد استفاض بالحتجاج بهذه المسألة.
(1/20)
كذلك مسائل أخرى متعددة, لا يمكننا الآن مع ضيق الوقت أن نستوعبها, فأبو مسلم كما كان في أدبه رجلا عالميا هو أيضا في علمه وفقهه خاصة رجل عالمي فإنه يجمع في فقهه ومناقشاته الفقهية ما بين المذاهب الإسلامية المختلفة ويعتمد على مراجع المذاهب المتعددة فهو ينقل عن كتاب الأم للإمام الشافعي والموطأ للإمام مالك, ويروي عن الأمهات الست وغيرها من كتب الحديث وعن شروحها, كما يروي عن كتب الرجال والنقد, ويروي عن كتب التفسير وغيرها, فكتابه موسوعة علمية, ولو أن الله- تبارك وتعالى- هيأ له أن يتم هذا الكتاب فأنسأ له في عمره لكان هذا الكتاب موسوعة فقهية في المذاهب الإسلامية المتعددة.
نسأل الله- سبحانه- أن يتغمده برحمته وأن يمن عليه بالفوز والسعادة في دار النعيم كما أسأله- سبحانه وتعالى- أن يهدينا سواء السبيل, وأن يبارك لنا في حياتنا وأن يعلمنا ما لم نعلم, وأن يفهمنا ما لم نفهم وأن يهدينا إلى الطريق الأقوم أنه- تعالى- على كل شيء قدير, وهو بالإجابة جدير, إنه نعم المولى ونعم النصير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين.
وفي الختام أشكر وزارة الثراث القومي والثقافة على هذه الفرصة التي أتاحتها لي وعلى رأسها سمو السيد فيصل بن علي بن فيصل آل سعيد وزير التراث القومي والثقافة, كما أشكر القائمين على المنتدى على اتاحة هذه الفرصة وأشكركم جميعا على اصغائكم وحضوركم.
وأسأل الله- تبارك وتعالى- أن يجمعنا مرات ومرات تحت لواء العلم والأدب إنه على كل شيء قدير, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى صحبه أجمعين.
(1) تكتب على نحو آخر (على م)
(1) عظة: نسخة قديمة للديوان ص 39 (المنظومات الأربع).
(1) (انفسنا) ص 348 ديوان أبي مسلم شاعر زمانه وفريد اوانه.
(1) المرجع نفسه ص 351 (الدوا).
(2) نفس المرجع ص 352.
(
(1/21)
3) ديوان أبو مسلم شاعر زمانه وفريد أوانه ص 17 ورد الشطر" وهبية الله وسورة الهدى".
(1) (لما) ديوان ابي مسلم ( مرجع سابق) صـ 355.
(1) ديوان الشاعر ص 316.
(1/22)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *