البصيرة ج 2 لأبي محمد بن أبي عبد الله الأصم موافق للمطبوع - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الاثنين، 10 يناير 2022

البصيرة ج 2 لأبي محمد بن أبي عبد الله الأصم موافق للمطبوع

 





الكتاب : البربر والإسلام لمحمد ناصر بوحجام
البربر والإسلام
الطّبعة الأولى
الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام
(1/1)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المقدّمة
حين تختلط المفهومات، وتتداخل الحقائق، وتؤوّل الواقعات تأويلاً خاطئًا، وتفسّر الوقائع تفسيرًا غير صحيح. وحين توجّه الأحداث توجيهًا مغرضًا، وحين تتبنّى مواقف لتحقيق أعراض غير سليمة، وتكريسها لضرب الأصالة في العمق ... يصبح إعادة تناول مسيرة التّاريخ ضرورة، وإعادة قراءته واجبًا. من هذا المنطلق توجّهنا إلى موضوع " البربر والإسلام " نتناوله من جديد؛ لما اكتنف هذا الموضوع من غموض، وما صاحب تقديمه من تشويه ومغالطات، جاءت نتيجة سياسة التّهميش والإقصاء التي مارسها من لا يروقه أن يرى الحقائق تتلى وتترى، لتفسد عليه مخطّطاته المغرضة
قيل عن البربر وعلاقتهم بالإسلام الكثير: إنّهم لم يقبلوا الإسلام، بل قاوموه كما يقاوم الدّخيل علي مجتمع لا يمتّ إليه بصلة، وناهضوه ونازلوه كما ينازل العدوّ الذي يتبنّى السّيطرة والقهر سياسةً في حركته ونشاطه. كما قيل عنهم: إنّهم لم يكونوا على توافق مع الإسلام حتّى ولو اعتنقوه؛ لأنّهم قبلوه على مضض، وعلى الرّغم منهم. من هنا آن الأوان للتّخلّص منه، كما يتخلّص من أيّ شكل من أشكال الهيمنة، وما فرض بالقوّة ...
(1/2)
قيل عنهم: إنّهم لا علاقة لهم بالعرب والعروبة، في انتمائهم ولغتهم، لذا يجب عدم الاتّصال بهم، ولا التّعامل معهم بدافع توثيق الرّابطة، وصلة الرّحم، إنّ في هذا خروجًا عن الرّوح التي تسود المجتمع البربري ... يقول الشّيخ محمد عليّ دبّوز يردّ على هذه الدّعوى وهذا اللّغط: " إنّ العرب من الأجناس الكريمة، والبربر مثلهم جنس كريم، لا يقلّ عن العرب في فضيلة من الفضائل، التي يكون بها التّقدّم والظّهور. إنّ كرم الجنس البربري هو الذي حقّق امتزاج العرب بالبربر، لمّا فتح المسلمون المغرب، وكان امتزاجًا سريعًا كما يمتزج الماء بالماء، ويختلط الذّهب بالذّهب، فيصير سبيكة واحدة، لا فرق بين أجزائها في التّلألؤ والصّفاء.
إنّ أبناء المغرب اليوم مزيج من هذين الجنسين الكريمين، ليس فيهم بربري خالص، ولا غربي قحّ، إنّهم أبناء البربر والعرب جميعًا .. " (1)
هذا ما نريد إثباته وتثييته في النّفوس، حتّى لا تذهب بها الوساوس والأقاويل مذاهب بعيدة، فتحطّ بها في متاهات وترهّات، تضرّ بها وبمجتمعها.
بمعنى أوضح وأوكد، إنّ الرّجوع في هذا المجال إلى الأصل والحقّ فريضة وفضيلة، فالتخلّي عن هذا الإسلام المرتبط بالعروبة أمر لابدّ منه؛ استنادًا إلى المرجعيّة التّاريخية.
__________
(1) - محمد عليّ دبّوز، تاريخ المغرب الكبير، ج1، ط1، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، 1384هـ/1964م، ص: 36.
(1/3)
في كلّ الحالات إنّ البربر ظلموا بهذا التّوجّه، والتّاريخ أُجحِف وحيف عليه بهذا التّفسير والنّقل الفاسد، فلابدّ من توضيح الرّؤية، وتصحيح الأخطاء. هذا ما قصدنا إليه في هذا البحث، الذي عرضنا فيه بعض النّقط، التي نرجو أن تسهم في بلوغ الغاية، وتحقيق الأهداف المرسومة والمنشودة في تصحيح التّاريخ، وتوحيد الكلمة ورصّ الصّفوف. بداية من بيان فضل البربر كما سجّلتها السّنة النّبوية، والتّاريخ على لسان بعض عظمائه. ثمّ سرد بعض الخصائص الذّاتية التي تميّز بها البربر، التي كانت من بين أسباب اعتناقهم الإسلام، والبقاء موفّين به، أوفياء له. كما عرضنا لدور البربر في نشر الإسلام في بلدان إفريقيا بخاصّة ...
ملنا إلى استعمال كلمة البربر أكثر من كلمة الأمازيغ؛ للغموض الذي يكتنف هذه الكلمة الأخيرة، ولما أثير حولها من جدال كبير، وعن حقيقتها ومدلولها البربري أو العربي، ولما وجّهه بعض المشكّكين في النّوايا، التي يحملها من يميل إلى التّمسك بكلمة أمازيغ ونسبة القبائل إليها، ومن جهة أخرى اختلاف المصادر حول هذه التّسمية، تاريخيًا ودلالة ... يقول محمد المختار العرباوي، بعد أن عرض لتاريخية كلمة " الأمازيغ " ومناقشة الآراء التي وردت في شأنها: " ونخلص من هذا إلى أنّ كلمة (أمازيغ) لم يقع تعميمها في القديم مثل كلمتي (لوبي وبربر)، ولابدّ من التّنبيه هنا إلى عدم الخلط بين القبائل الأمازيغية التي عرفت في العهد الفينيقي وما بعده، وبين اسم مازيغ، الذي يجعله نسّابة البربر الجدّ الأعلى
(1/4)
لفرع (البرانس) الذي لا نعرف حقيقته، بالإضافة إلى اتّصاله بـ (حام) وشجرة الأنساب القديمة، ذات الطّابع الخرافي الذي لا علاقة له بالوقائع التّاريخية المعروفة.
ومن هنا فإنّ إشاعة اسم (أمازيغ) كما يفعل أصحاب النّزعة البربريّة، وإفهام النّاس بأنّ سكّان المنطقة في القديم كانوا يسمّون (الأمازيغ)، وأنّ اللّغة التي كانوا يتكلّمون بها كانت تسمّى (الأمازبغية)، أمر مخالف للحقيقة، ولا سند له من آثار أو تاريخ." (1)
حتّى ولو كان الأمر غير محسوم بشكل نهائي (2)، إلاّ أنَّ الأدلّة التي قدّمها الأستاذ العرباوي تتّسم بالعلمية والدّقّة، وتستند إلى مرجعية تاريخيّة، وتتميّز بالتّوثيق والإحالة الدّقيقة. وعرضه يتّصف بالعمق
__________
(1) - محمد المختار العرباوي، في مواجهة النّزعة البربرية وأخطارها الانقسامية، نشر اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2005م، ص: 19. ينظر مزيد من التّفاصيل ص: 5 – 23.
(2) - مثلاً: قد يفهم من كتابات الشّيخ محمد عليّ دبّوز أنّ الأصل في التّسمية هو " أمازيع " مثل قوله: " إنّ البربر أبناء مازيغ بن كنعان بن حام بن نوح عليه السّلام ... " ص: 23. وقوله: " إنّ جدّ البربر هو مازيغ بن كنعان بن نوح. والبربر يسمّون أنفسهم (الأمازيع)، ويعتدّون بهذا الاسم. ولا يطلقونه إلاّ على الأقحاح الصّرحاء فيهم، أمّا النّزلاء والدّخلاء الذين يتبربرون كعبيدهم ومواليهم فلا يسمّونهم أمازيغ؛ لأنّهم ليسوا من سلالة مازيغ."، ص: 25. وإنّ كان الشّبخ دبّوز يستعمل الاسمين معًا: البربر والأمازيغ، ويأتي باسم البربر أكثر. ينظر كتابه تاريخ المغرب الكبير، ج1، ط1، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، 1384هـ/ 1964م.
(1/5)
والتروّي والموضوعية، لذا استأنسنا به واعتمدناه مبدئيًّا في هذا البحث، فركّزنا على كلمة " بربر "، وكنّا نورد كلمة " أمازيغ "– في الغالب – في النّصوص التي وردت فيها عند أصحابِها.
نرجو من الله السّداد والتّوفيق والقبول.
الجزائر يوم الجمعة: 01 من جمادى الأولى 1431هـ
16 من أفريل ... 2010م
الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام
فضل البربر
رويت عن الرّسول - صلى الله عليه وسلم - أحاديث أو روايات، كما نقلت عن بعض الخلفاء الرّاشدين أقوالٌ، وعن بعض العلماء آثار ... تسجّل فضائل البربر، وتذكر مناقبهم، وبخاصّة أدوارهم في نشر الإسلام، والمحافظة على الدّين. من ذلك ما جاء في كتاب طبقات المشايخ بالمغرب.
(1/6)
" وعن فضائل البربر من العجم، ما بلغني أنّ عائشة رضي الله عنها، دخل عليها ذات مرّة رجل من البربر، وهي جالسة، ومعها نفر من المهاجرين والأنصار، فقامت عائشة عن وسادتها، فطرحتها للبربري دونهم، فانسلّ القوم واجلين بذلك، فلمّا قضى البربري حاجته، أرسلت إليهم عائشة، حتّى اجتمعوا، فقالت لهم: ما الذي أوجب خروجكم في تلك الحال؟ قالوا: لإيثارك علينا وعلى نفسك رجلاً كنّا نزدريه، وننتقص قومه، فقالت: إنّما فعلت ذلك لما قال فيهم رسول الله صلّى الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: أتعرفون فلانًا البربري؟ قالوا: نعم، قالت: كنت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات مرّة جالسين، إذ دخل علينا ذلك البربري، مصفرّ الوجه، غائر العينين، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما دهاك؟ أمرض؟ فارقتني بالأمس ظاهر الدّم، فجئتني السّاعة كأنّما انتشرت من قبر، فقال: يا رسول الله صلّى الله عليك وسلّم، بتّ في همّ شديد، فقال: وما همّك؟ قال: تردّد بصرك فِيَّ بالأمس، خفت أن يكون نزل فِيَّ قرآنٌ، فقال: لا يحزنك ذلك، فإنّما ترديدي البصر فيك لأنّ جبريل عليه السّلام جاءني، فقال: أوصيك بتقوى الله وبالبربر، قلت: وأيّ البربر؟ قال: قومُ هذا، وأشارَ إليك، فنظرتُ إليك، فقلت لجبريل: ما شأنهم؟ قال: قوم يُحيون دين الله، بعد أن كاد يموت، ويجدّدونه بعد أن يبلى، ثمّ قال جبريل: يا محمّد، دين الله خلق من خلق الله، نشأَ بالحجازِ وأهله بالمدينة، خلقه ضعيفًا، ثمّ ينمّيه وينشئه، حتّى يعلو ويعظم، ويثمر كما تثمر
(1/7)
الشّجرة، ثمّ يقع، وإنّما يقع رأسه بالمغرب. والشّيء إذا وقع لم يرفع من وسطه، ولا من أسفله، إنّما يرفع من عند رأسه." (1)
هذه الرّواية إن صحّت، تبيّن وتسجّل للبربر فضلاً كبيرًا، وتحفظ لهم مكانة مرموقة، وتكشف عن أدوار مهمّة يقوم بها البربر في مسيرة الدّعوة الإسلامية، ممّا يبرّر اهتمام كبار القوم وساسة الأمّة بجنسهم.
كما ورد في المصدر نفسه حديث عن الخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب. " وبلغنا أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، أنّه قدم عليه وفد من البربر، عن لَواتَة، أرسلهم إليه عمرو بن العاص، وهم محلّقو الرّؤوس واللّحا، فقال لهم عمر: من أنتم؟ قالوا: من البربر من لواتة، فقال عمر لجلسائه: هل فيكم من يعرف هذه القبيلة في شيء من قبائل العرب والعجم؟ قال العبّاس بن مرداس السّلمي: عندي منهم علم يا أمير المؤمنين، هؤلاء من ولد بني قيس، وكان لقيس عدّة من الأولاد، أحدهم يسمّى بربر بن قيس، وفي خلقه بعض الرّعونة، فقال: أخرق ذات مرّة فخرج إلى البراري، فكثر نسله ولده. فكانت العرب تقول: تبربروا، أي كثروا، فنظر إليه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فاستحضر ترجمانًا، يترجم كلامهم، فقال لهم: ما لكم محلّقو الرّؤوس واللّحا؟ فقالوا: شعر
__________
(1) - أبو العبّاس أحمد بن سعيد الدّرجيني، كتاب طبقات المشائخ بالمغرب، ج1، حقّقه وقام بطبعه إبراهيم طلاّي، مطبعة البعث، قسنطينة، الجزائر، (د. ت)، ص: 16. فصل " فضائل البربر من العجم"، ص: 15 – 19.
(1/8)
نبت في الكفر، فأحببنا أن نبدله بشعر نبت في الإسلام، فقال: هل لكم مدائن تسكنونها؟ فقالوا: لا، قال: فهل لكم حصون تتحصّنون فيها؟ قالوا: لا، فقال: هل لكم أسواق تتبايعون فيها؟ قالوا: لا. قال: فبكى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقال له جلساؤه: وما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أبكاني حديث، سمعته من رسول - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، حين انهزم المسلمون، فنظر إليّ - صلى الله عليه وسلم - أبكي، فقال: وما يبكيك يا عمر؟ فقلت: أبكاني قلّة هذه العصابة من المسلمين، واجتماع أمم الكفر عليها، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: لا تبكِ يا عمر، فإنّ الله تعالى سيفتح للإسلام بابًا من المغرب، بقوم، يعزّ بهم الإسلام، ويذلّ بهم الكفر، أهل خشية وبشائر، يموتون على ما أبصروا، وليست لهم مدائن يسكنون فيها، ولا حصون يتحصّنون فيها، ولا أسواق يتبايعون فيها، فلذلك بكيت السّاعة، حين ذكرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذكر من الفضل عليهم. فردّهم إلى عمرو بن العاص، وأمره أن يجعلهم في مقدّمات العسكر، وأحسن إليهم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وأكرمهم، وأمر عمرو بن العاص أن يحسن إليهم، فكانوا مع عمرو بن العاص حتّى قتل عثمان. فلمّا كان هذا الخبر في عصابة من أهل المغرب عن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رجونا أن يكونوا أئمّتَنا، ومن اقتفى آثارهم، وأن يكونوا أهل تلك الفضيلة." (1)
__________
(1) - المصدر السّابق، ص: 17، 18 ..
(1/9)
احتفظ البربر بمكانتهم السّامية عند العارفين الفضل لأهله، واستقطبت سمعتهم الطّيّبة اهتمام ذوي العقول الرّاجحة، وسكنت محبّتهم قلوب المنصفين من الرّجال. من هؤلاء الفاروق الذي أظهر إعجابًا وتقديرًا لهؤلاء البربر الذين أخبر عنهم الرّسول - صلى الله عليه وسلم -، وبما سيكون لهم من شأن في خدمة الدّعوة الإسلامية. بعد أن ذكر بعض العلامات التي تميّز هؤلاء القوم، فوجدها عمر بن الخطّاب مجسّدة وظاهرة وبارزة فيهم، فشرع يذكرهم بخير، ويوصي بهم خيرًا، وقدّم لهم الخير.
لم يقف الأمر عند الرّعيل الأوّل، بل تعدّاه إلى من جاء من بعدهم. أورد الدّرجيني الخبر الآتي: " وبلغنا أنّ رجلاً من ذريّة أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه عن بعض الخلفاء أنّه قال: يا أهل مكّة، ويا أهل المدينة أوصيكم بالله وبالبربر خيرًا، فإنّهم سيأتونكم بدين الله من المغرب، بعد أن تضيّعوه، هم الذين ذكرهم الله في كتابه بقوله: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي الله ُبِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُومِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ، يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ، ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُوتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله ُوَاسِعٌ عَليمٌ} (1) لا ينظرون في حسب امرئ غير طاعة الله." (2)
__________
(1) - سورة محمّد، الآية:
(2) - كتاب طبقات المشائخ، ج1، ص: 18.
(1/10)
قال البكري وهو يرفع الحديث إلى ابن مسعود رضي الله عنه: أن آخر حجّة حججنا قام خطيبًا فقال: يا أهل مكّة، ويا أهل المدينة أوصيكم بتقوى الله وبالبربر، فإنّهم سيأتونكم بدين الله من المغرب، وهم الذين يستبدل الله بكم، إذ يقول: { ... وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (1) والذي نفس ابن مسعود بيده، لو أدركتهم لكنت لهم أطوع من إمائهم، وأقرب إليهم من دثارهم." (2)
وبلغنا عن عائشة رضي الله عنها أنّها أبصرت صبيًّا له ذؤابتان، ذا جمال وهيئة، فقالت: من أيّ قبيل هذا الصّبيّ الشّقيّ؟ قالوا: من البربر. قالت عائشة: البربر يقرون الضّيف، ويضربون بالسّيف، ويلجمون الملوك لجام الخيل. (3)
هذه الأقوال، وهذه الشّهادات تبيّن مكانة البربر في قلوب النّفوس الكريمة، وتسجّل أدوارهم الكبيرة في مسيرة الدّعوة الإسلامية. وتكشف عن علوّ شخصيتهم وكرامتها وعزّتها. يقول أبو إسحاق إبراهيم طفيش (ت 1965م) عن قبيلة نفوسة مثلا، وهي إحدى قبائل البربر المرموقة:
__________
(1) - سورة محمّد، الآية: 38.
(2) - كتاب طبقات المشائخ، ج1، ص: 18.
(3) - المصدر السّابق، ج1، ص: 19. ما أورده الدّرجيني عن فضائل البربر من العجم نقله حرفيًّا عن أبي زكرياء يحي بن أبي بكر، في كتابه: كتاب سير الأئمّة وأخبارهم، تحقيق وتعليق إسماعيل العربي، نشر المكتبة الوطنية، الجزائر، 1399هـ/1979م، ص: 33 – 35.
(1/11)
"و (نفوسة) لهم في الإسلام تاريخ حافل بالعظمة الدّينية والعلمية والكرامات، حتّى كانت بلادهم جديرة بأن تسمّى جبال الأولياء والأبدال، وقد اشتهرت بلاد نفوسة بكرامات الأولياء والأخيار وصفوة الصّالحين، أينما ذهب المسلم شاهد تلك المناقب التي تشرق كالأنوار المتألّقة بين مزن السّماء، بل لها إشراق النّجوم والأقمار بما لا يستطيع العاقل جحوده، وإنّما المنكرون للكرامات هم الملاحدة والجهلة بمقام الأولياء" (1)
من جملة ما يثبت أصالة هذه القبيلة، ويكشف عن طيب عنصرها، وما تتمتّع به سرائرها من الصّفاء والطّيبة، وما تحمله نفوسهم من العزّة والكرامة والمروءة والشّهامة ... سرعةُ استجابتها للحقّ، ومسارعتها لاحتضان الحسن والجمال والطيب والخير. يضيف أبو إسحاق" ... وأعود إلى نفوسة، قيل سمّوا نفوسة، لأنّهم أسلموا بأنفسهم، ولم يكن منهم الإسلام كرهًا. فعندما بلغ الفتح الإسلامي طرابلس، وكان أمير الجيش الإسلامي عمرو بن العاص، قدم عليه ستّة نفر من البربر، محلّقين الرّؤوس واللّحى، فقال لهم عمرو: من أنتم وما الذي جاء بكم؟ فقالوا: رغبنا في الإسلام فجئنا له، لأنّ جدودنا قد أوصونا بذلك، فقال لهم عمرو: ما
__________
(1) - أبو زكرياء يحي الجناوني، كتاب الوضع مختصر في الأصول والفقه، ط1، تعليق ونشر أبي إسحاق إبراهيم اطفيش، مطبعة الفجالة الجديدة، القاهرة، (د. ت)، ص: 5.
(1/12)
لكم محلّقي الرّؤوس واللّحى؟ فقالوا له: ذلك شعر نبت في الكفر، فأردنا أن ينبت في الإسلام. (1)
إنّ فضائل البربر كثيرة، وما ورد من آثار عن الرّسول - صلى الله عليه وسلم -، والصّحابة والسّلف الصّالح يشير إلى مكانة هؤلاء البربر في الحضارة الإسلامية، ولو أنّ آثارهم ستظهر فيما بعد عصر النبوّة والصّحابة والتّابعين. لاشكّ أنّ من خصّهم بالذّكر، ونوّه بهم، وأوصى بهم خيرًا، قد نظر إليهم نظرة المؤمن الذي بنور الله يبصر. وعلم أنّهم لم ينالوا، ولن ينالوا هذه الحظوة وهذا التّشريف والتّقدير، إلاّ لأنّ بهم خصائص ومميّزات ومكرمات ساعدتهم على بلوغ هذه المرتبة. فما هي هذه المميّزات أو الخصائص التي تميّز بها البربر؟
__________
(1) - المرجع السّابق، ص:6.
(1/13)
الخصائص التي تميّز بها البربر (الأمازيغ)
سرد محمّد عليّ دبّوز مجموعة من الخصائص والمميّزات التي عرف بها البربر، فكانت من بين عوامل نجاحهم في حياتهم، رغم ما تعرّضوا له من معيقات بناء حضارة، أو تأسيس مجد، ولكنّهم مع كلّ ذلك قدّموا ما نهضوا به بالحضارة الإنسانية، منها الحضارة الإسلامية، وقد أرجع الأستاذ أسباب نهجهم الخطّ الإسلامي، وتبنّيهم الفكر الإسلامي منهج حياة، في نهاية مطافهم بعد تجريبهم كثيرًا من الأفكار والمناهج والمشروعات الحضارية، التي عرضت عليهم، أو أجبروا على الانتماء إليها وتبنّيها، أرجع سبب الاختيار الذي لم يعدلوا عنه – معظمهم – إلى ما تميّزوا به من هذه الخصائص والمميّزات الأصيلة، التي تهدي إلى الصّواب، وللتي هي أقوم. (1) نشير إلى بعض هذه الخصائص فيما يأتي:
- التّمسّك بالحريّة والتّعلّق بها
__________
(1) - ينظر محمّد علي دبوز، تاريخ المغرب الكبير، ج1، ص: 76 – 91. وكتابُ تاريخ المغرب الكبير بأجزائه الثّلاثة مليء بالحديث عن هذه الخصائص.
(1/14)
تشبّث البربر بالحريّة بقوّة، وحاربوا كلّ أشكال الاستعباد والقهر والتّسلّط، وفرض الأمر الواقع، حين لم يقتنعوا بما قدّم لهم، ولم يتمتّعوا فيه بالحريّة. لقد قاوموا كلّ الدّول التي أرادت استعمارهم واستعبادهم، وفرض أفكارهم بالقوّة عليهم، حتّى الإسلام الذي اعتنقوه في النّهاية، قاوموه في بداية الأمر، ولمّا تأكّدوا من أنّه يختلف عن بقيّة المناهج أو الأفكار الأخرى التي جاءت لتقهرهم، وأنّه جاءهم ليحافظ على حريّتهم، ويوفّر لهم أسباب السّعادة والرّاحة، وأنّه أتاهم ليعينهم على النّهوض حضاريًا وفكريًا ... اعتنقوه وانضووا تحته، وأسهموا في نشره وإغنائه وتطويره. يقول محمد علي دبّوز: " والبربر أمّة مجبولة على حبّ الحريّة، وشعب عجنت طينته بحبّ الاستقلال، لا يطيقون الاستبداد والاستعباد، ولا يخضعون للجبروت والطّغيان، ولا يحنون الهام إلاّ لمن يمتلك قلوبهم بحسن معاملته واحترامه." (1)
يؤكّد الكاتب هذه الحقيقة في كلّ ما سجّله وكتبه عن البربر: " ... أمّا البربر فخلاف ذلك، إنّهم أمّة فتيّة، قد استرجعت حريّتها من الرّوم، ونهضت نهضتها الكبرى لتأسيس الدّول العظمى، وللسّير بكلّ قوّة في طريق التّقدّم والحياة، ثمّ إنّ البربر أبناء حروب وسنان، وفرسان جلاد وطعان، يتّصفون بكلّ ما يتّصف به العرب، من عزّة وإباء، ومن شمم وأنفة، لا يخضعون بالسّيف، ولكن بالإقناع، ولا ينقادون بالعنف، ولكن
__________
(1) - المرجع السّابق، ص: 83.
(1/15)
بالحكمة واللّين، يكرهون من يحتقرهم، ويثورون على من يهينهم. فالاحترام والتّقدير والمجاملة هي التي تفتح قلوبهم، وتجعلهم لك كما تريد ... (1)
التّمتّع بالحريّة المشروعة والأصيلة، هو الذي فتح قلوبهم وعقولهم لينتقوا الصّحيح من الأفكار، والقويّ من المبادئ، والواضح من المناهج، والسّليم من المواقف. " إنّ قلوبهم تفتّحت لكلّ دين يدعو إلى الحريّة والمساواة، ويمجّد العدل والإخاءَ، فلابدّ أن يؤمنوا بالقرآن ويؤثروه، ويتمسّكوا به إذا وجدوه دين العدل والمساواة والحريّة، وأن يحبّوا المسلمين، إذا وجدوهم رسل عدل ومحبّة وإنصاف." (2)
- الثّبات على المبادئ
إنّ الحريّة الأصيلة المؤسّسة على قواعد ثابتة راسخة، تنتج خلق الثّبات والاستقرار الفكري، بعد التّشبّع بهذا الفكر وتبنّيه عن قناعة واقتدار. هذا ما يتّصف به البربر، وهو ما ساعدهم على رسوخ الإسلام فيما بعد في نفوسهم والتّمسّك به، وعدم التّحوّل عنه، بعد الرّحلة الطّويلة، التي قضتها سفينتهم، وهي تجوب الأنهار والبحار والمحيطات؛ بحثًا
__________
(1) - محمّد علي دبّوز، تاريخ المغرب الكبير، ج2، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1382هـ/ 1963م، 52، 53.
(2) - المرجع السّابق، ص: 52.
(1/16)
عن الشّاطئ الأمين والمتين والرّصين الذي ترسو فيه أو عليه، وكانت في النّهاية المنهج الإسلامي.
ذكر محمد علي دبّوز الأسباب التي منعت البربر من الدّخول في الإسلام في بداية اتّصالهم، والتي صعّبت من فتح المسلمين للمغرب: " وسابع الأسباب هو ثبات البربر على مبادئهم، وتمسّكهم بِإِلْفهم. إنّهم أمّة قويّة الشّخصية، معتدّة بنفسها وتقاليدها، لا تقلّد، ولا تسارع إلى نبذ ما ألفته، لا تأخذ بالجديد، حتّى تتيقّن أنّه أحسن من القديم الذي عندها، لذلك لم يسارع البربر إلى الإسلام حتّى تأمّلوه، وعرفوا حقيقته، وتيقّنوا أنّه هو مفتاح السّعادة، وسبب النّجاح، فأقبلوا عليه، ورسخوا فيه رسوخ جبالهم، وثاروا على كلّ الملوك المسلمين، الذين يخرمون أصوله في السّياسة، ويعاملون رعاياهم بغير العدل الذي أمر الله به." (1)
- التّأنّي والتّحفّظ في المصادقة
لا يتعجّلون في مصادقة من لم يسبق لهم به معرفة، حتّى يمتحنوه ويختبروه، ويتعرّفوا عليه جيّدًا، وإذا ما قبلوه صديقًا وامتزجوا به، بقوا أوفياء له. يقول محمّد علي دبّوز: " والبربر ذوو نفوس اجتماعية، يهوون الاختلاط بالأمم، ويصادقون غيرهم، ولكن في تحفّظ وأناة ... هم لا يصادقون غيرهم إلاّ بعد الاختبار والامتحان، وإلاّ بعد زمن طويل، يعجمون فيه عوده، ويدرسون فيه أحواله، وإذا ارتضوا أحدًا وأحبّوه،
__________
(1) - المرجع السّابق، ص: 109، 110.
(1/17)
أخلصوا له، وأزالوا الكلفة معه، وامتزجوا به، وفدوه بالنّفس والنّفيس، وثبتوا على حبّه، ووفوا كلّ الوفاء ... إنّهم ذوو وفاء للأصدقاء. يشهد بذلك تاريخهم، وما نجده إلى الآن من خلّة الوفاء والثّبات على الحبّ في أحفادهم. وهل المغرب إلاّ صورة لأولئك الأجداد؟ وهل دماؤه إلاّ دماؤهم؟ وهل خلاله إلاّ وراثتهم، صقلها الدّين الحنيف، وأيّدتها الدّماء العربيّة التي امتزجت بدمائهم في عروقنا؟ " (1)
هذه الخلّة تساعد كثيرًا على بقاء الإسلام ثابتًا في نفوس البربر، لأنّ التّأنّي الذي يأبى عليهم الاغترار بالمظاهر، ويرفض لهم الانطلاق إلى تبنّي موقف، أو الرّكون إلى مبدأ قبل اختباره، ثمّ البقاء أوفياء لما يعتنقونه أو يتّخذونه منهجًا ... يخدم الإسلام، ويقوّي أنصاره، ويحميه من عامل تخلّي النّاس عنه. وهو ما حصل مع البربر عبر تاريخهم الطّويل، وما يزال، رغم ما يسجّل من تأثير بعض الأسباب، وما طفا على السّطح من بعض المتغيّرات، ولكنّ القاعدة بعامّة لم تنتقض.
يردّ محمد علي دبّوز على من يروّجون أنّ ثورات البربر على الأمويّين، تصنّف في خانة خلّة عدم الوفاء لأولياء الأمور، ويُرجِعُ ذلك – بالعكس – إلى طبعهم الصّافي، وقوّة نفوسهم، التي لا ترضى بالهوان والذّلة والصّغار: " وما ثوراتهم على الأمويّين، وما ينوون من الثّورة عليه
__________
(1) - تاريخ المغرب الكبير، ج1، ص: 85. ينظر الشّهادة نفسها ابن خلدون، كتاب العبر ... ، ج6، ط بولاق بمصر، ص: 104.
(1/18)
من عدم الوفاء، ولكنّ ما يدعوهم إليه إباؤهم وطبعهم الكريم، وما يندبهم إليه الدّين الحنيف، الذي يأمر بإزالة الظّلم وقمع الظّلم." (1)
- رفض الظّلم والضّيم
عرف عن البربر رفض الظّلم، ومحاربة الضّيم، ومقاومة كلّ من تسوّل له نفسه قهر غيره، والنّيل منه، لذا ثاروا على كلّ سياسة جائرة، وناهضوا كلّ حكم مستبدّ، وقارعوا كلّ قوّة تبغي الهيمنة والسّيطرة، وقاوموا كلّ عتوّ وعلوّ، يتّخذ رقاب النّاس سبيلا إلى ذلك. يقول محمّد علي دبوز: " إنّ ثورة المغرب ثورة طلاّب العدل والإنصاف والمساواة، واتّباع الدّين الحنيف في السّياسة ضدّ الظّلم والجبروت والعصبيّة والعنصرية، ومخالفة الدّين. فهي ثورة إسلامية، هدفها إحياء الإمامة العادلة، والقضاء على الملوكية الظّالمة. قام بها البربر، فانضمّ إلى صفوفها، وأيّدها وباركها كلّ الأتقياء النّزهاء، الذين ينظرون بدين الله في المشرق والمغرب." (2)
__________
(1) -تاريخ المغرب الكبير، ج1،، ص: 87. لمزيد من التّفاصيل في الموضوع ينظر محمد المختار العرباوي كتابه: في مواجهة النّزعة البربرية وأخطارها الانقسامية، نشر اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2005م، ص: 144 وما بعدها، فيها ردّ ساطع وتفنيد قاطع لدعوى أن ثورات البربر وانتفاضاتهم كانت لأسباب قوميّة، وصراعً بين جنسين مختلفين ...
(2) - تاريخ المغرب الكبير، ج2، ص: 263.
(1/19)
ردّ الكاتب على من وصف ثورات البربر بأنّها ترمي إلى إشاعة الفوضى والاضطراب، وأنّ طبعهم الذي يكره النّظام، ويمقت الانضباط، هو الذي دفعهم إلى القيام بما قاموا. إنّهم بهذا قوم لا يصلحون لإقامة حضارة، ولا يُعْتَمَدون في تأسيس مجتمع، نسي هؤلاء: " أنّهم لو أعملوا عقولهم في تاريخ البربر، وحقيقة البربر لعلموا أنّ ثوراتهم قبل الإسلام ثورات وطنيّة رشيدة، وثوراتهم في عهود الإسلام إنّما كانت على الظّلم والجبروت، وعلى التّمرّد على الدّين الحنيف في سياسة الشّعوب، وأنّها ثورات إسلامية قد وفّقوا فيها، ودعاهم إليها الدّين الحنيف، الذي يتمسّكون به، ويغارون عليه." (1)
لقد ثار البربر – كما يشير الكاتب – على الدّول الباغية المتغطرسة، وناهضوا الفئات الجاهلة بالسّياسة، وحاربوا الدّول التي لا تحسن معاملتهم بالقيم الإنسانية، وقاوموا الزّمر التي تعاكس أمزجتهم، ولا تقدرهم قدرهم، بِما يتنافى مع الفطرة، ويجانب الصّواب في مجال الحقوق المشروعة.
إنّ هذه السّمة وهذه الخليقة هي التي دفعت بهم إلى اعتناق الإسلام، ثمّ التّمسّك به، ثمّ احتضانه، والتّحصّن به، والدّفاع عنه؛ لأنّهم وجدوا فيه ما ينسجم مع طبعهم، وألفوا فيه ما يتناغم مع نفوسهم، ورأوا فيه ما يحقّق أهدافهم وطموحهم.
__________
(1) تاريخ المغرب الكبير، ج1، ص: 84.
(1/20)
- عدم الخضوع بالقوّة
القسوة والقوّة والقهر لا تنفع في استمالة البربر إلى من يريدهم أن يكونوا معه، في صفّه وخطّه. إنّ خلق الإباء والشّمم، لا يقبل لهم أن يكونوا تابعين ولا منقادين بعوامل أو دوافع التّسلّط والإذلال، إنّهم يرون ذلك معاول تهدم شخصياتهم، وتنقض كيانهم. إنّ هذه الشّيمة هي معلم من معالم الإسلام، و مغنم له في الوقت نفسه. فقد وجد فيها البربر معلمًا من شخصيتهم، فانجذبوا إليه، واعتنقوا الإسلام، ووجد فيها الإسلام مغنمًا؛ لأنّها من الأسباب التي توفّر بقاء من يختاره منهجًا في حياته مرتبطًا به، لا يتخلّى عنه. قال محمّد عليّ دبوز: " إنّ ما يجعل جبال أوراس تخضع لحسّان هو إسلامهم. إنّ الإسلام فقط هو الذي يجعلهم لحسّان ماءً سلسًا يروِي، وإلاّ فإنّ البربر لا يخضعون بالقوّة، ولا يسكنون بالعنف، وإذا سكنوا على العنف فسكون مؤقّت، سكون المتحيّن للفرصة، المتطلّب للغرّة. هذا ما عرفه حسّان العظيم، فأخذ من أوراس زبدته من فتيانهم الأذكياء، وشجعانهم النّبهاء؛ لينفخ فيهم ما يشاء." (1)
__________
(1) - تاريخ المغرب الكبير، ج2، ص: 103.
(1/21)
هذه بعض الخصائص التي تميّز بها البربر، وهي التي ساعدت على:" الاستقرار الطّبيعي لدى البربر، باعتناق كلّ دعوة حقّ، ولو بعد فترة مقاومة تلقائية لها أو رمزية." (1)
إنّ هذه الخصائص التي تميّز بها البربر كانت من العوامل التي ساعدت على اعتناق أهل المغرب الإسلام، وبشكل قويّ وصادق، بل إنّ دخول البربر الإسلام أسهم في انتشاره بسرعة في المغرب، وفي إفريقيا بعد ذلك. يقول محمد علي دبّوز: " ولولا إسلام البربر ما استطاع المسلمون دخول جبالهم، والاستقرار فيها، وما انقادت تلك الجبال للقيروان، فصارت جزءًا من الدّولة الإسلامية." (2) وقال في موضع آخر عن موسى بن نصير وعلاقته بالبربر وإسلامهم: " إنّ إسلام أغلب بلاد البربر جعلها متّصلة بالدّين، فلذلك لم يجد موسى كلّ المغرب متنمّرًا عليه كما وجده من قبله ... " (3)
ابن خلدون يلخصّ لنا حقيقة البربر، وما يتميّزون به: " وأمّا تخلّق البربر بالفضائل الإنسانية، وتنافسهم في الخلال الحميدة، وما جبلوا عليه
__________
(1) - الدّكتور المنجي الكعبي، " من أسباب توطيد الإسلام بإفريقيا والمغرب ": مجلّة الثّقافة، وزارة الثّقافة والسّياحة، الجزائر، عدد: 84، سنة: 14، صفر- ربيع الأوّل 1405هـ/ نوفمبر- ديسمبر 1984م، ص: 59.
(2) - تاريخ المغرب الكبير، ج2، ص: 109.
(3) - المرجع السّابق، ص: 131.
(1/22)
من الخلق الكريم، مرقاة الشّرف والرّفعة بين الأمم، وسبب المدح والثّناء من الخلق، من عزّ الجوار، وحماية النّزيل، ورعي الذّمم، والوفاء بالقول والعهد، والصّبر على المكارم (1) والثّبات في الشّدائد وحسن الملكة، والإغضاء عن العيوب، والتّجافي عن الانتقام، ورحمة المسكين، وبرّ الكبير، وتوقير أهل العلم، وحمل الكلّ، وكسب المعدوم، وقرى الضّيف، والإعانة على النّوائب، وعلوّ الهمّة، وإباية الضّيم، ومشاقة الدّول، ومقارعة الخطوب، وغلاب الملوك، وبيع النّفوس لله في نصر دينه، فلهم في ذلك آثارٌ نقلها الخلف عن السّلف، لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون أسوة لمتّبعيه من الأمم، وحسبك ما اكتسبوه من حميدها، واتّصفوا به من شريفها، أن قادتهم إلى مراقي العزّ، وأوفت بهم على ثنايا الملك، حتّى علت على الأيدي أيديهم، ومضت في الخلق بالقبض والبسط أحكامهم ... " (2)
إنّ هذه الإشارات التي أثبتها الشّيخ محمّد علي دبّوز، وهذه الشّهادة التي سجّلها ابن خلدون، مهمّة في الإفادة من الخصائص الذّاتية، والعوامل النّفسية في تبنّي الأفكار، واحتضان المناهج، ومفيدة في استثمارها في
__________
(1) - هكذا ورد في الأصل، يبدو أنّه خطأ مطبعي، ما يناسب السّياق هو لفظة (المكاره).
(2) - تاريخ المغرب الكبير، ج1، ص: 90. ينظر ابن خلدون، كتاب العبر، ج6، ط بولاق، مصر، ص: 106.
(1/23)
التّربية والتّوجيه، وطريقة التّعامل مع النّفوس والأمزجة، وقيّمة في توضيح الرّؤى في مسألة انتماء البربر وهويّتهم، وطبيعة تحرّكهم، وحقيقة نشاطهم، ومعينة على ردّ الشّبهات، والتّصدّي للتّشويهات، ودفع التّضليلات، ونبذ الادّعاءات، ونقض المفارقات، وفضح المغالطات ...
المهمّ: " ... وتفتّحت أوراس تفتّح الذّراعين للحبيب، وشمّر حسّان وأبناء الكاهنة الثّلاث لنشر الإسلام في البربر، فانتشر دين الله في المغرب انتشار الزّهر في البرتقالة، إذا عانقها الرّبيع، والنّضارة في الوجه، إذا داخلته المسرّات، وأقبل البربر على دين القرآن، ولغة القرآن، يتعلّمونها، ويتحدّثون بها ... " (1)
إقبال البربر على الإسلام
توالى إقبال البربر على الدّخول في الإسلام، وتشرّب مبادئه، وتبنّي أصوله، وردّ ما سواها، والتّنصّل ممّا أخذوه، ونشؤوا عليه. واختلطوا بالعرب الفاتحين، الذين قدموا لنشر الإسلام:" فرأوا فيهم جمال الإسلام، وعظمته، ورحمته وعدله، وديمقراطيته الصّحيحة، فتفتّحت له قلوبهم كما يتفتّح زهر الأقاح لنور الصّباح، فآمن الأمازيغ قاطبة بمحمّد عليه السّلام، وأصبح القرآن دستورهم، والعربية لغتهم الأثيرة المقدّسة، فسادوا وسعدوا، وأنضرت أيكة المغرب لمّا شعشعت فيها شمس الإسلام، واختلط العرب
__________
(1) - تاريخ المغرب الكبير، ج2، ص: 104.
(1/24)
بالبربر، فكوّنوا جنسًا واحدًا، هو مزيج من العرب والبربر، وكان من هذا الجنس الكريم العربي المسلم أجدادنا الميامين، نحن معشر أبناء المغرب اليوم. ولبس المغرب حلّته العربية الزّاهية العظيمة، فصار في تفكيره وعاداته، ولسانه وحضارته عربيًا، ينتسب إلى حضارة الإسلام وأرومته الكبري، وتآخى مع الأمّة الإسلامية، فصار جزءًا منها." (1)
إنّ البربر - كما قلنا سابقًا – يتميّزون بخاصيّة التّروّي في اعتناق الأفكار الجديدة، وعدم التّسرّع في التّخلّي عن معتقداتهم، إلاّ بعد أن يظهر لهم الخلل فيها، وإذا اقتنعوا بالمتغيّر الحادث أقلبوا عليه؛ بما يجدّد في حياتهم، ويغيّر مسارها نحو الأحسن، ويبدّل منهجهم في التّحرّك والعمل والنّشاط. في هذا يقول الأستاذان عبد الله شريّط ومحمد الميلي عن أبناء الجزائر وهم بربر: " ... لكنّ اعتناقهم الإسلام وإقبالهم عليه، بعد اعتناقهم بعدالة مبادئه أدخل تغييرًا جذريًّا على مفهوم الثّورة عندهم؛ لأنّ تداخل السّلطة السّياسية مع سلطان الدّين يجعل كلّ ثورة تنجم عرضة لأن تؤوّل بأنّها خروج عن الدّين، رغم أنّها قد تكون في أساسها شرعية، عندما يكون ممثّل السّلطة ظالمًا، لأنّه حينذاك يكون قد ظهر في مظهر من حرّف الدّين وشوّهه. " (2)
__________
(1) - تاريخ المغرب الكبير، ج1، ص: 453.
(2) - الدّكتور عبد الله شريّط ومحمد الميلي، مختصر تاريخ الجزائر السّياسي والثّقافي والاجتماعي، ط2، المؤسّسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985م، ص: 79.
(1/25)
يقول ابن باديس: " فلمّا جاء العرب، وفتحوا الجزائر فتحًا إسلاميًا لنشر الهداية، لا لبسط السّيادة، دخل الأمازيغ من أبناء الوطن في الإسلام، وتعلّموا لغة الإسلام العربية طائعين، فوجدوا أبواب التّقدّم في الحياة كلّها مفتّحةً في وجوههم، فامتزجوا بالمصاهرة، وثافنوهم في العلم، وشاطروهم سياسة الملك، وقيادة الجيوش، وقاسموهم كلّ مرافق الحياة، فأقام الجميع صرح الحضارة الإسلامية، يعربون عنها وينشرون لواءها بلغة واحدة، هي اللّغة العربية. فاتّحدوا في العقيدة والنّحلة كما اتّحدوا في الأدب واللّغة، فأصبحوا شعبًا واحدًا، عربيًا متّحدًا غاية الاتّحاد، ممتزجًا غاية الامتزاج. وأيّ افتراق يبقى بعد أن اتّحد الفؤاد، واتّحد اللّسان. " (1)
إذن دخل البربر في الإسلام، وامتزجوا بالعرب الذين قدموا من الجزيرة العربية، وكوّنوا معهم لحمة واحدة، فنهضوا بالدّين الجديد الذي اعتنقوه: " فأدرك البربر بذكائهم وطموحهم عظمة الإسلام في العرب، ففتحوا لهم نفوسهم، وامتزجوا بهم، واصطبغوا بصبغتهم، فصار مغربنا والحمد لله شعبًا واحدًا، هو مزيج من الدّماء البربرية والعربية، قد اكتسب البربر من العرب الأمجاد كلّ خصائصهم الحسنة، فضاعفت خصائصهم الجميلة، فصار مغربنا بتلك المزايا الكثيرة كلّها، وبوراثة
__________
(1) - الدّكتور صالح الخرفي، في رحاب المغرب العربي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، 1985م، ص: 134.
(1/26)
الأجداد العظماء الذين كانوا لنا من بني سام وبني حام، وبالدّماء الزّكية، التي تعانق فيها روح مازيغ وقحطان، وامتزجا امتزاج الأنفاس الحرّى في قبلات الودّ والهيام، وصار البربر بعد الفتح الإسلامي بالدّين الواحد يشبهون العرب في كلّ شيء، كالعين والعين في وجه الحسناء الجميلة. " (1)
هذه الحقيقة، سجّلها أكثر من دارس، وابتهج بها غير واحد من النّاس الأحرار الأطهار الأخيار. فهذا الشّيخ إبراهيم أبو اليقظان، يبدي انتشاءه وسروره بهذه الأخوّة التي وحّدت الأمازيغ والعرب، وهم يلتقون في نادي التّرقّي بعاصمة الجزائر، المنتدى الذي يجمع العلماء والمفكّرين والعاملين في حقل الدّعوة والإصلاح والنهضة ... قال سنة 1934م:
كيف لا تزهو الجزائر ... بالحميا البابليه
__________
(1) - محمد علي دبوز، تاريخ المغرب الكبير، ج3، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1383هـ/ 1963م، ص: 416. ينظر أيضًا المرجع نفسه، ص: 86 – 89. ردّ الشّيخ محمد علي دبوز على الشّيخ عبد الرّحمن الجلالي، الذي قال عن البربر: " سأل سليمان بن عبد الملك موسى بن نصير عن البربر، فقال: يا أمير المؤمنين هم أشبه النّاس بالعرب لقاء ونجدة، وفروسية وسماحة وبادية، غير أنّهم أغدر النّاس، لا وفاء لهم. ".
(1/27)
وبنو (مازيغ) مع أبناء ... (قحطان) الفتيه
أصبحوا في ردهة ... النّادي، على أحسن نيّه
في حمى النّادي تصافت ... أنفسٌ الشّعب الزّكيه
في حمى النّادي تراءت ... لِلوَلاَ آيٌ خفيه
في حمى النّادي تلاشت ... هَمزات العنصريه
(1/28)
في حمى النّادي تعالت ... صرخة الشّعب الدّويه (1)
نشير هنا إلى أنّ البربر أنفسهم أسهموا في نشر الإسلام فيما بينهم؛ لأنّهم ارتضوه منهج حياة، ومصدر فكر. يبيّن لنا هذا مدى قناعتهم بما تبنّوه، بعد بحث طويل عن الحقيقة، ويبرز مدي إخلاصهم لما اعتقدوه واعتنقوه. يقول أبو إسحاق عن نفوسة مثلا: " فلنفوسة الفضل في رسوخ الإسلام في العنصر البربري، وذلك أنّ نفوسة نقلت العلوم من البصرة إلى بلادها، حتّى نبغ فيها أئمّة جهابذة، وظهر فيهم أساطين العلماء، الذين أبرزوا من ذخائر العلوم ما فاقوا به، كعلماء المشرق: عمان والبصرة والكوفة، واستفرغوا الجهد لاستنباط الأحكام في كثير من القضايا الفقهية، فعرفت نفوسة بآرائها في شتّى المسائل ... " (2)
استقرّت نفوس البربر واطمأنّت، بعد رحلة طويلة من المعاناة النّفسيّة؛ بحثًا عن الطّريق الصّحيح والسّليم، الذي يستجيب لميولهم وطبيعتهم، فكان الإسلام هو هذا المطلب وهذا السّبيل. يسجّل ابن باديس هذه الحقيقة فيقول:" ما من نكير أنّ الأمّة الجزائرية كانت مازيغية
__________
(1) - أبو اليقظان إبراهيم، ديوانه ج2، ط1، نشر جمعية التّراث، العطف، غرداية، الجزائر، 1989م، ص: 34، 35. نشرت القصيدة في مجلّة الشّهاب، (جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين)، الجزائر، ج9 م10، 1934م.
(2) - كتاب الوضع مختصر في الأصول والفقه، ص: 11.
(1/29)
من قديم عهدها، ولم يحدث أنّ أمّة من الأمم استطاعت أن تقلبها عن كيانها، ولا أن تخرج بها عن مازيغيتها، أو تدمجها في عنصرها، بل كانت هي التي تبتلع الفاتحين، فينقلبون إليها ويصبحون كسائر أبنائها، فلمّا جاء العرب وفتحوا الجزائر فتحًا إسلاميًا لنشر الهداية - لا لبسط السّيادة – وإقامة العدل الحقيقي بين جميع النّاس، لا فرق بين العرب الفاتحين والأمازيغ أبناء الوطن الأصليّين، دخل الأمازيغ من أبناء الوطن في الإسلام، وتعلّموا لغة الإسلام العربية طائعين، ووجدوا أبواب التّقدّم في الحياة كلّها مفتوحة في وجوههم فامتزجوا بالعرب بالمصاهرة، ونافسوهم في مجال العلم، وشاطروهم سياسة الملك، وقيادة الجيوش، وقاسموهم كلّ مرافق الحياة." (1)
يضيف الشّيخ عبد الحميد بن باديس قائلاً: " لبس أبناء الجزائر العروبة، وامتزجت بأرواحهم، وتغلغلت في قلوبهم، وأشرقت شمس معارفها في آفاق أفكارهم، وجرت ينابيع بيانها على أسلات ألسنتهم، فأصبحوا ومنهم فيها علماء وخطباء وشعراء، ولهم منها جنود وقوّاد وأمراء، وحسبك من كثرتهم القائد الفاتح، والخطيب المصقع طارق بن زياد، ثمّ ما قامت مملكة من أبناء الوطن إلاّ وهي عربيّة في كلّ شيءٍ، مثل سائر الممالك العربية في المشرق، بل فوق بعضها." (2)
كلّ الدّارسين الذين تمكّنوا من رصد هذه الحقيقة، وتتبّعها في المصادر التي تناولت حركة البربر الثّقافيّة، وحرصهم على الإفادة من الفكر الإسلامي، واستيعابهم له، أجمعوا على تمكّن هذا الفكر في نفوسهم، وإسهامهم في خدمته، وبروزهم فيه بشكل قويّ: " فعصر بني حمّاد كان عصر إنشاء وترقية وازدهار للعلوم الإسلامية والفنون الأدبية، ويضارعه في ذلك عصر المرابطين الذي رافقه في السّير الزّمني. وأمّا عصر الموحّدين فإنّه كان عصر نضج للعلوم التي ازدهرت في العصور السّابقة.
وأكبر ما أعان على ذلك النّضج هو ظاهرتان هامّتان وهما:
1 – استعراب قسم كبير من البربر، بفضل تشجيع الحمّاديّين للحركة العقلية مدّة عهدهم.
2 – احتكاك البيئة الثّقافية بالجزائر بثقافة الأندلس والمشرق .. " (3)
ما إن تمكّن العرب الفاتحون من أرض المغرب، وكسب قلوب البربر، والظّفر بثقتهم بهم حتّى سارعوا إلى تعليمهم وتثقيفهم، وتلقينهم مبادئ الإسلام. والبربر أنفسهم أقبلوا على الدّين الجديد يتزّودون منه
__________
(1) - الدّكتور أحمد بن نعمان، كيف صارت الجزائر مسلمة عربية، مطبعة البعث، قسنطينة، الجزائر، 1401هـ/ 1981م، ص: 47. ينظر مجلّة الشّهاب، عدد فبراير 1938م.
(2) - في رحاب المغرب العربي، ص: 137.
(3) - مختصر تاريخ الجزائر السّياسي والثّقافي والاجتماعي، ص: 105م.
(1/30)
بقوّة: " وكان حسّان حريصًا على تعليم البر بر دينهم ولغة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *