الكتاب: الإيمان بالملائكة لأحمد الخليلي
[ترقيم الصفحات آلي غير موافق للمطبوع]
المحاضرة العاشرة
الإيمان بالملائكة
ــ المقدمة .
ــ الملائكة عالم غيبي .
ــ ذكر الملائكة في القرآن الكريم .
ــ هيئة الملائكة وصفاتهم .
ــ مسؤليات الملائكة .
ــ أثر موجة الالحاد والخرافة في عقيدة المسامين .
ــ رأي المدرسة الاصلاحية في جنس الملائكة والرد عليه .
ــ الخلاصة .
ــ الأسئلة .
المقدمة
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه ، أحمده بما هو له من الحمد وأثني عليه ، واستغفره من جميع الذنوب وأتوب اليه ، وأومن به وأتوكل عليه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، أرسله الله بالطريقة السواء ، والمحجة البيضاء ، والشريعة السمحاء ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وكشف الغمة ، صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين .
أما بعد .
فإني أحييكم جميعا أساتذة وطلبة ، بتحية الاسلام ، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وقبل أن أشرع في الدرس أهنئ أبناءنا الطلبة ، الذين التحقوا في هذا العام بهذا الصرح العلمي ، سائلا الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم ، ويوفق إخوانهم الذين سبقوهم ، والذين يأتون من بعدهم ، ويوفقنا جميعا لطلب العلم النافع ، وأن يأخذ بأيدينا إلى العمل الصالح الذي يرضيه سبحانه وتعالى .
كانت الدروس في العام الذي مضى حول الركن الأول من أركان الإيمان ، حسب ترتيبه في حديث جبريل عليه السلام ، وهو الإيمان بالله سبحانه .
وننتقل الآن إلى الركن الثاني من أركان الإيمان حسب ترتيبها في ذلك الحديث ، وهو الإيمان بملائكة الله .
الملائكة عالم غيبي
(1/1)
وملائكة (1) الله سبحانه عالم غيبي مما احتجب عن بصرنا كما أخبر عنه الصادق الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم – فيجب أن نؤمن بإخبار الله تعالى ، وبإخبار رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
والايمان بالغيب هي السمة الأولى من سمة المتقين الذين يهتدون بهذا الكتاب المنزل من عند الله ، فقد قال الحق ـ سبحانه وتعالى – { بسم الله الرحمن الرحيم ، ألم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب } سورة القرة /1ـ2 .
وبهذا يفارق المسلمون المؤمنون غيرهم من الذين انحبسوا في مضيق هذا العالم المحسوس ، فلم يؤمنوا إلا بما تمتد إليه أبصارهم ، وتسمعه آذانهم ، وتقع عليه سائر حواسهم ، فالمؤمن يؤمن بأن وراء هذا العالم المحسوس ، عوالم أخرى ، هي أوسع من هذا العالم ، وبإيمانه هذا يزاداد قربا وصلة بالله سبحانه وتعالى الذي خلق هذه العوالم ، كما يزداد حبا لله ورغبة في عبادته ، وحرصا على طاعته ، وخشية من عقابه .
ذكر الملائكة في القرآن الكريم
وقد جاء ذكر الملائكة في آيات كثيرة من آيات القرآن الكريم ، منها ما تكرر في كثير من الآيات في كثير من السور من ذكر قصة آدم - عليه السلام – وما كان من إيذان الله تعالى ملائكته بأنه سيجعل خليفة في الأرض ، ومنها ما وصف الله سبحانه وتعالى ملائكته به في كثير من آيات الكتاب ، كقوله عز من قائل : { جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق مايشاء }سورة فاطر/ 1 .
ويقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } سورة الحج/75.
__________
(1) ـ جاء في لسان العرب في مادة "ملك" :" الملك من الملائكة واحد وجمع ؛ قال الكسائي: أصله مألك بتقديم الهمزة من الألوك ، وهي الرسالة، ثم قلبت وقدمت اللام فقيل ملأك ....ثم تركت همزته لكثرة الاستعمالفقيل ملك، فلما جمعوهاردوها إليها فقالوا ملائكة وملائك أيضاً " انتهى .
(1/2)
ويقول عز من قائل في وصف هؤلاء الملائكة : { بل عباد مكرمون لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولايشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } سورة الانبياء/28.
ويقول سبحانه وتعالى أيضا في وصف طائفة منهم ، وهم زبانية النار والعياذ بالله : { عليها ملائكة غلاظ شداد لايعصون الله ماأمرهم ويفعلون مايؤمرون } سورة التحريم/6 .
ذكر الروح الامين:
وذكر الله سبحانه الروح الأمين وهو من الملائكة ، هو جبرئل – عليه السلام – في آيات منها قوله سبحانه : { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه } سورة البقرة/97.
ويقول سبحانه وتعالى : نزل به – أي بهذا القرآن – { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } سورة الشعراء/193ـ195.
ووصفه الله ـ تعالى ـ بقوله : { شديد القوى ذو مرة } سورة النجم /5ـ6 ووصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ أيضا بأنه رسوله كريم : { لقول رسول كريم ذي قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين } سورةالتكوير/19ـ21، هذه الصفات لجبريل – عليه السلام - .
ويبين الله سبحانه وتعالى أن الملائكة ينصرون عباد الله المؤمنين في القتال ، سواء كان هذا النصر بالمشاركة في القتال – كما قال بعض المفسرين – أو بتثبيت عزائم المؤمنين ، فقد قال عز من قائل : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } سورة الانفال/9 .
وقال سبحانه وتعالى:{ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين . بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة الآف من الملائكة مسومين) سورة آل عمران/124ـ125 .
هيئة الملائكة وصفاتهم
(1/3)
إذا نستخلص من هذا كله أن الملائكة هم خلق لهم كيان مستقل ، أي هم جنس من جنس مخلوقات الله سبحانه وتعالى المستقلة ، كاستقلال البشر بطباعهم ، وصفاتهم ، وأحوالهم ، وأن هذا الجنس اصطفاه الله عز وجل بأن جعله جنسا بعيدا عن الشهوات ، ولذلك لايقع تحت تأثير الإغراء الشيطاني ، فلا يعصي ربه عز وجل ، لايعصون الله ماأمرهم ويفعلون مايؤمرون } سورة التحريم/ 6 ، ونستخلص من ذلك أيضا أن هذا الجنس جنس له طاقات قوية تفوق طاقات البشر.
وجاء في أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم _ ما يدل على أن هؤلاء الملائكة خلقوا من نور كما جاء ذلك في حديث عائشة – رضى الله عنها – عند مسلم (1) ، وجاء أيضا في الكتاب العزيز وفي الحديث النبوي مايدل على أنهم يتكيفون .
ولذلك قال العلماء في تعريف الملائكة : بأنهم مخلوقات نورانية قادرة على التشكل ، من ضمن مايدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في مريم : { أرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرأ سويا } سورة مريم/17 جاء اليها في صفة بشر.
وجاء أيضا في حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما يدل عليه ، فقد جاء في حديث عائشة – رضي الله عنها – عند الأئمة : الربيع والبخاري ومسلم ، أن الحارث بن هشام سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كيف يأتيك الوحي يا رسول الله ؟ قال : يأتيني أحيانا مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ) (2) .
__________
(1) ـ صحيح مسلم ،كتاب الزهد ،باب في أحاديث متفرقة ،رقم الحديث(2996) ولفظه : عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"خلقت الملائكة من نوروخلق الجان من مارج من ناروخلق آدم مما وصف لكم " .
(2) ـ ـ اللفظ للامام الربيع ،مسند الربيع ، باب في ابتداء الوحي، حديث رقم(2) ، ،صحيح البخاري ، كتاب الوحي ، باب2 .
(1/4)
وجاء أيضا في حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي روته أم المؤمنين – عائشة – في تفسير الآيات التى في سورة النجم (1) والتى في سورة التكوير (2) ، انه – عليه أفضل الصلاة والسلام – قال ( ذلك جبريل ، لم أره في صورته التى خلقه الله عليها إلا مرتين ) رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض (3) .
وهذا يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - – كان يراه في سائر المرار في صورة غير صورته الحقيقية ، بحيث كان يتمثل للرسول – عليه أفضل الصلاة والسلام – في صورة غير الصورة التى خلقه الله عليها ، وإنما هو في هاتين المرتين راه – عليه أفضل الصلاة و السلام – رؤية واضحة في صورته التى خلقه الله عليها ، وقد كان سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض .
وإن ما كان من لطف الله تعالى بعبده ورسول محمد – - صلى الله عليه وسلم - – وبغيره من أنبيائه الذي يرون الملائكة ، كان من لطف الله سبحانه وتعالى بهم أن الملائكة كانت تتمثل لهم في صور تطيقها القوى البشرية .
مسؤليات الملائكة
وجاء في كتاب الله ما يدل على أن لهؤلاء الملائكة أعمالا مختلفة ، فمنهم الكرام الكاتبون ، وهم المقصودون في قوله سبحانه وتعالى { كلا بل تكذبون بالدين ، وإن عليكم لحافظين ، كراما كاتبين ، يعلمون ماتفعلون } سورة الانفطار/ 9ـ12 ويقول سبحانه : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } سورة ق / 18
__________
(1) ـ قال الله تعالى " أفتمارونه على ما يرى ..."
(2) ـ قال تعالى إنه لقول رسول أمين ...".
(3) ـ انظر تفسر الآيات الواردة في سورتي النجم والتكوير في تفسير الجامع لأحكامالفرآن للقرطبي ، وتفسير أبي السعود ، وغيرهما .
(1/5)
وأن هناك ملائكة موكلون بقبض أرواح بني أدم ، وعلى راس هؤلاء عزرائيل (1) وهو الذي عناه الحق – سبحانه وتعالى – حيث قال : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } سورة السجدة/11 ،ودلت الآية الأخرى على ان هناك أعوانا له من جنس الملائكة ، إذ يقول عز وجل : { ولو ترى اذا يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } سورةالانفال/50 .
وجاء أيضا في الكتاب العزيز مايدل على أن هناك طائفة من الملائكة تتولى توجيه بني آدم . يفهم ذلك مما ذكره الله سبحانه وتعالى في قصة مريم – عليها السلام – فإن تلك المقاولة أو ذلك القول إنما كان إلهاما ألهمه الله سبحانه وتعالى مريم بواسطة هؤلاء الملائكة (2) ، وجاء في الحديث ما يدل على ذلك ، فقد جاء في حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي رواه الترمذي وغيره " إن للملك لمة بأبن آدم وإن للشيطان لمة فأما لمة الملك فإيعاد بالخير ، وتصديق بالحق ، وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق فمن وجد الأولى فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ، ثم تلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قول الله تعالى { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء }سورة البقرة288 / (3)
__________
(1) ـ ذكر القرطبي في " أحكام القرآن " (14/62 – 63) معنى اسم " عزرائيل " فقال : واسمه عزرائيل ومعناه عبد الله .ا.هـ ، ويقال أن معناه : عبد الجبار ، والإمام القرطبي يقر بأن اسم ملك الموت هو عزرائيل .
وقال ابن كثير في البداية والنهاية (1/42) : وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن ، ولا في الأحاديث الصحاح ، وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل .ا.هـ.
(2) ـ اآيات من سورةآل عمران
(3) ـ أخرجه الترمذي، كتاب التفسير ،باب سورة البقرة ،، رقم الحدجيث (2998) ، وحسنه .
(1/6)
وفي كتاب الله مايدل على أن من الملائكة رسلا يصطفيهم الله سبحانه وتعالى ، هم الذين يرسلهم إلى أنبيائه بل وإلى من يشاء من خلقه { الله يصطفي من الملائكة رسلا }سورة الحج /75 ومن بين هؤلاء جبريل – عليه السلام – كما يدل عليه قول الله سبحانه : { فإنه نزله على قلبك بإذن الله } ، أي جبريل {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } سورة البقرة / 97 ، وهو الروح الأمين الذي يقول فيه سبحانه : { نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين }سورة الشعراء /193ـ195 ، في هذا ما يدل على أن هذا الوحي الذي أوحاه الله على عبده ورسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – نزل به جبريل .
يفهم من الآيات ومن الأحاديث النبوية أن الملائكة – كما قلت – جنس مستقل ، وأن هذا الجنس من جنس العقلاء ، فهم ذوات عاقلة ، وليسوا صفات لذوات عاقلة ، بل وهم ليسوا من جنس الكائنات غير العاقلة ، فهم من جنس العقلاء ولكن الله سبحانه وتعالى جعل لهم طبائع خاصة فهم كما أخبر عنهم { يسبحون الليل والنهار لايفترون } ، فهم لا يسأمون {فإن استكبروا فالذين عند ربك لايستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، يسبحون الليل والنهار لايفترون } سورة الانبياء/20 / طبيعتهم تقتضي عدم السأم ، فهم لايسأمون ، وهم لا ينامون – كما تقتضيه هذه الاية – وهم لا يأكلون ولا يشربون ، لايتغذون بالغذاء المادي ، إنما غذاؤهم ذكر الله سبحانه وتعالى ، هم خلق من خلق الله ، لايجوز أن يوصف أحد منهم بالربوبية ، ولا يوصف أحد منهم بالبنوة لله سبحانه وتعالى ، كما قالت الجاهلية : الملائكة بنات الله (1) ، لا بل هم عباد لله سبحانه ، { بل عباد مكرمون } سورة / ولا تفرز أجسامهم الفضلات الطبيعية التى تفرزها أجسام البشر وسائر الكائنات الحية .
__________
(1) ـ قال الله ـ تعالى ـ "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناشا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون" سورة الزخرف /19 .
(1/7)
ووجود خلق من هذا النوع لايبعده العقل ، فبحسب الإنسان أن يرى أسرار الله سبحانه وتعالى في هذه المخلوقات التي يشاهدها ، نحن نعلم أن في طوايا هذه المخلوقات التى نشاهدها أسرارا عجيبة لايمكن أن يحيط بها العقل البشري ، إنما يرى العقل البشري ظواهر هذه الأسرار، أما إحاطته بها فذلك أمر مستحيل .
هذه النواة الصغيرة، تخرج منها هذه النخلة الباسقة ، التى تثمر هذه الثمرات المتتابعة ، الخلية المهينة الصغيرة ، التى لا تكاد تبصر، حتى بأشعة المجهر، يخرج منها هذا الإنسان العاقل، السميع ، البصير، المفكر المتصرف ، بحسب ما جعل الله سبحانه وتعالى له من طاقات في حدود طبيعته .
هذه الكهرباء ، لا نعلم حقيقتها ، ومع ذلك فاننا نستفيد بنورها ، ونستفيد بطاقتها الحرارية ، ونستفيد بتبريدها ، ونستفيد بتحريكها للآلات .
كل ذلك من أسرار الله سبحانه وتعالى في هذه المخلوقات المسحوسة ، أسرار لا تكتنهها عقول البشر ، فإذا لايستغرب أن يكون لله سبحانه وتعالى خلق خلقوا من نور ولهم طبائع مخصوصة ، تختلف عن طبائع البشر وهم قادرون على التشكل ، كما أرادوا حسب ما أذن الله عز وجل ، وأنهم لا يسأمون ، يسبحون الليل والنهار لايفترون ، لايحتاجون إلى نوم ، ولا يحتاجون إلى غذاء مادي ، كل من ذلك أمر جائز عقلا ، وقد دل الشرع على وقوعه ، فيجب علينا أن نسلم ونخضع ، ونصف الملائكة بما وصفهم الله سبحانه وتعالى به ، وبما وصفهم به رسوله الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم .
أثر موجة الالحاد والخرافة في عقيدة المسامين
(1/8)
والعلماء درجوا على هذا المعتقد ، كل العلماء الإسلاميين ، على أختلاف مذاهبهم الفقهية والعقائدية ، درجوا على ذلك ، إلى أن طغت موجة إلحادية (1) في البلاد الإسلامية ، من جراء البعثات التعليمية ، التى أوفدت إلى أوربا (2) ، وهي خالية من تعاليم الإسلام ، فرجعوا من هناك – رجع أولئك الطلاب الذين ابتعثوا إلى هناك – بأفكار مادية ، بحيث لا يؤمنون بما وراء العالم المحسوس ، وكانوا يعتقدون أن الدين عدو للعلم ، وأن بإمكانهم أن يحطوا هذا الدين الإسلامي حتى يتلاشى بمطارق العلم الحديث كما تحطمت العقائد النصرانية وذابت تحت وهج العلم (3) ، وماأدركوا أن ثم فارقا بين العقيدة الإسلامية الصافية الناصعة التى جاء بها القرآن الكريم وثبتت بها السنة – على صاحبها أفضل الصلاة والسلام – وبين معتقدات النصارى (4) التى هي نسيج من الأوهام ، اشتد العداء للدين من قبل كثيرين من أولئك المبتعثين ، وكانوا ينتظرون اليوم الذي يقضي فيه على هذا الدين ، الذي يعتبرونه ضربا من ضروب الخيال ، وفنا من فنون الأوهام .
في مقابل هذا التيار ، كان في البلاد الإسلامية تيار أخر هو التيار الخرافي (5) الذي يجعل من الخرافات حقائق دينية مسلمة ، وهذه الخرافات – بطبيعة الحال – لا تتفق مع الواقع ، ولا تتفق مع العلم ، شاعت خرافات متعددة ، شاع بأن الإنسان إذا بلغ مرتبة ما من عبادة الله سبحانه وتعالى يمكن أن يتصرف في هذا الكون ، ويمكن أن يعقل ، ويمكن أن يحرك الكون ؛ يمكن أن يقول للسماء انشق فتنشق ، يمكن أن يقول للأرض انشقي فتنشق، يمكن أن يقول للنهر غر فيغور ، إلى آخره .
__________
(1) ـ معنى الالحاد في اللغة : الميل عن القصد، يقال : لحد في الدين يلحد وألحد:مال وعدل، وقيل لحد مال وجار ،، والملحد : العادل عن الحقالمدخل فيه ما ليس فيه، يقال قد ألحد في الدين ولحد أي حاد عنه . لسلن العرب مادة"لحد".
(1/9)
وبجانب ذلك ألصقت بتفسير القرآن الكريم إسرائيليات (1) بعيدة عما جاء به الدين الحنيف ، فتجد في كتب التفسير أن المطر ينزل من شجرة تحت الجنة ، وأن السحاب إنما هو غربال لهذا المطر ، وأن قطرات المطر التى تنزل من السماء إلى السحاب هي في حجم الجمال ، ولكنها تتبدد فتنزل في حجمها الحالي ... ... في هذا الغربال إلى آخر ما كان يقال ، ويعتقد بأنه حق.
رأي المدرسة الاصلاحية في جنس الملائكة والرد عليه
ما بين هذين التيارين نشأت المدرسة الإصلاحية التى كان على رأسها السيد جمال الدين الأفغاني (2) ، الذي زار مصر في الربع الأخير من القرن الثالث عشر الهجري ، وقد التفت حوله شبيبة من المصريين على رأسهم الأستاذ العملاق الإمام محمد عبده (3) ، وعندما خرج جمال الدين الأفغاني من مصر ، قال : تركت فيكم محمد عبده (4) .
نحن ندين للمدرسة الإصلاحية بمكافحة البدع والخرافات ، لها الفضل في ذلك ، كما أن لها الفضل في رد شبه كثير من أعداء الإسلام ،من المستشرقين اليهود ، والنصارى ، والملاحدة ، ولكن مع ذلك وقعت المدرسة الإصلاحية في إحراج عظيم عندما واجهت هذين التيارين ، فأرادت أن تفسر الدين تفسيرا تقبله عقول أولئك الماديين ، الذين لاتستسيغ عقولهم إلا ما كان أمرا معهودا ، ما كان واقعا تحت التجربة أو تحت الحس ، فدفع ذلك بالإمام محمد عبده إلى القول ، بأن قصة آدم – عليه السلام – التى ذكرها الله سبحانه وتعالى إما أن يفوض فيها ولا يقال فيها بشي ، وإما أن تؤل هذه القصة على أنها تمثيل أي كانت قصة تمثيلية.
(1/10)
والقول بأن ما ذكره الله سبحانه وتعالى من قول وجهه إلى الملائكة ، ومن جواب من الملائكة ، ومن رد الله تعالى عليهم ، ومن كل ما وقع مجرد تمثيل ، هذا القول يؤدي إلى فتح الباب للذين يريدون أن يكذبوا بالنبيين ، إلى القول بأن كل ما جاء في القرآن من قصة نوح وهود وصالح وشعيب وغيرها لم يكن ذلك كله إلا تمثيلا ، كما يؤدي أيضا إلى رد جميع أخبار الله سبحانه وتعالى بأن تحمل هذه الأخبار على التمثيل .
وفي تجويز الإمام محمد عبده لأن تكون هذه القصة مجرد تمثيل توطئة لما أراد أن يقرره من بعد ، بعد ذلك بين بأن القرآن الكريم والسنة النبوية دلا على أن للملائكة تأثير في خواطر الخير التى تخطر للإنسان ، كما أن للشياطين تأثيرا في خواطر الشر.
فإذا ، ندرك من هذا ، حسبما قال ، بأن الملائكة إنما هي كائنات روحانية ، أي هي أرواح مجردة ، ليس لها أجساد ، لأنها لو كانت لها أجساد لاتصلت بأجسادنا عند الإلهام ، كما أن الشياطين لو كانت لهم أجساد أيضا لاتصلت أجسادهم بأجسادنا عند الوسوسة ، ولكن بما أن هذا التأثير تأثير روحاني فيجب أن يقال في هذين الصنفين بأنهما صنفان روحانيان فحسب .
كانت هذه الخطوة هي الخطوة الأولى التى خطاها ليقرر ما يريد أن يقرره .
(1/11)
بعد هذا ذكر بأن في الكائنات المختلفة التى تشهدها خاصيات هذه الخاصيات هي من أسرار الله سبحانه وتعالى فيها ، فهذه البذرة التى تخرج منها الشجرة ، هذه البذرة فيها خاصية أودعها الله سبحانه وتعالى فيها ، ويسر هذه الخاصية تخرج منها هذه الشجرة وتنمو ، فإذن لا يستحيل أن يقال بأن المقصود بالأرواح والمقصود بالملائكة هذه الخاصيات التى أودعها الله سبحانه وتعالى في هذه الكائنات الأرضية ، وأن هذه الخاصيات جعلها الله سبحانه وتعالى مسخرة للجنس البشري ، سخرت هذه الخاصيات للجنس البشري . بحيث تصرف الإنسان في هذه الأرض وما فيها من المنافع ، فاستغل منافعها ، ودفع مضارها ، وتمكن من قضاء حاجته فيها ، هذا التسخير هو المراد بسجود الملائكة لآدم الذي أخبر الله تعالى عنه ( طبعا الرأي للإمام محمد عبده ليس رأيي ) (1) وإنما كانت هناك قوة لم تسخر لأدم عليه السلام – هذه القوة هي التى سماها الله سبحانه وتعالى إبليس ، وهذه القوة هي التى لزت بهذا العالم لزا ، وهي التى ترجع بالموجود الى العدم ، وتقطع سبيل الباقي حتى يعود إلى الفناء ، يعنى تقطع سبيل الكائنات عن البقاء حتى تعود إلى الفناء وتثني الإنسان عن عمل الخير إلى عمل الشر ، ويقول بأن هذه القوة هي القوة الى ضللت أناسا كثيرين فقالوا بأن هناك إلها للشر وليست هي بإله ولكنها محنة من الإله.
__________
(1) ـ تنبيه من سماحة الشيخ المحاضر لدفه توهم من يتوهم أن ما سبق من القول رأيه أو أنه يؤيده.
(1/12)
وفي هذه الخطوات كلها كان تلميذه السيد رشيد رضا يخطو معه هذه الخطوات ، بل يقرر كلامه (1) ، ويستدل له أحيانا ويرد حجج خصومه أحيانا أخرى ، والسيد رشيد رضا أراد أن يوفق ما بين كلام الإمام محمد عبده في الخواطر الخيرية والخواطر الشرية ، فإن الإمام محمد عبده سوغ ـ أيضاـ أن تكون خواطر الخير هي الملائكة ، وخواطر الشر هي إبليس أو هي الشياطين ، أراد السيد رشيد رضا بين كلام هذا وبين كلام الإمام الغزالي في " عجائب القلب " من كتاب " إحياء علوم الدين " مع التباين الذي بين الكلامين (2) ، فإن كلام الإمام الغزالي واضح لمن تأمله ، واضح في أن مراده بأن هذه الخواطر الخيرية هي من سبب الملائكة وليست هي عينها الملائكة ، والخواطر الشريه هي من الشيطان ، وليست هي عينها الشيطان ، وضرب مثلا لذلك ... ضرب مثلا ما يتأثر به الجدار عندما تنفلت النار ... ما يتأثر به الجدار من الدخان فيسود ، وما يتأثر تربه الفضاء من الضوء فيستنير فإن الذي يتأثر به الجدار فيسود غير الذي يتأثر به الفضاء فيتنور ، وكذلك الخواطر الخيريه تختلف عن الخواطر البشرية ، فالخواطر الشريه منشؤها من الشياطين ، والخواطر الخيرية منشؤها من الملائكة .
__________
(1) ـ راجعـ إن شئت ـء تفسير القرىن الكريم الشهير بتفسير المنار تأليف محمد رشيد رضا ج1 ص 280 وما بعدها لتقف على ما قاله الامام محمد عبده حول قصة آدم عليه السلام .
(2) ـ انظر تفسير المنار ج1،ص268 ، حيث نقل الشيخ محمد رشيد رضا كلام الامام الغزالي لتأييد رأي شيخه الاستاذ الامام.
(1/13)
هذا الذي قصده الإمام الغزالي في " إحياء علوم الدين " وإراد الإمام محمد عبده بعد ما قرر الذي قرره من أن هذه الخصائص يحتمل أن تكون هي الملائكة أن يرجم الفجوة التى بين الذين لا يؤمنون بالغيب والمؤمنين بالغيب فقال بأن هذه الخاصية يسميها الذي لا يؤمن بالغيب قوة طبيعية ، والمؤمنون بالغيب يسمونها روحا ويسمونها ملكا ، ولو تسامح هؤلاء الذين يؤمنون بالغيب ، ولم يتقيدوا بالألفاظ ، لوافقوا على تسميتها قوة طبيعية ، لأنها باعتبار أثرها الظاهر هي قوة طبيعية ، وباعتبار خفائها ، هي روح وهي ملك ، ولو تسامح أيضا هؤلاء الذين لايؤمنون بالغيب واقتربوا قليلا لأدركوا الحقيقة ، وآمنوا بالملائكة الذين أخبر الله تعالى عنهم" (1) .
بعد هذا الكلام ذكر السيد رشيد رضا بأن قصد الأستاذ بما قرره هنا أن يعرض الدين للذين لايؤمنون به في الصورة التى يفهمونها وتستيقنها عقولهم ، يقول " وقد اهتدى بذلك كثيرون ، وضل به قوم آخرون ، فأنكروا عليه " (2) .
ما قصده بالقوم الآخرين الذين ضلوا ؟ ، هم الذين لم يوافقوا الإمام محمد عبده على رأيه ؟!
فإن كثيرا من العلماء بحكم مارسخ في نفوسهم من الاعتقاد الصحيح بأن الملائكة جنس له ذوات مستقلة ، جنس له حقيقة تختلف عن بقية الحقائق ، التى نشاهدها أنكروا هذا الرأي ، وإنكاره ضرورة .
__________
(1) ـ أنظر تفسير المنار ، ج1 ص270 وما بعدها
(1/14)
هنا التهبت عاطفة الإمام محمد عبده ، وانفعل فرد على هؤلاء ردا ، نقله السيد رشيد رضا بنصه في المنار هذا الرد أقرب إلى العاطفية منه إلى الموضوعيه ، فإن من يتأمله يجده منصبغا بلون من انفعاله الشديد ، ومتوقدا بنار عاطفة الجياشة ، وكانت كلمات هذا الرد كلمات قاسية ، مما جاء في هذا الرد " ما الذي فعلت العادات والتقاليد بعبيد الألفاظ ، حتى أبوا من قبول هذا التفسير للملائكة ، ولو سئل هؤلاء عما يعتقدون لوقعوا في إحراج عظيم بحيث لا يمكنهم أن يجيبوا عليه من أن الاسلام هو الإذعان التام الذي يشترك فيه العقل والوجدان وتنقاد له الأركان ، وأي إذعان يحصل إذا كان الإنسان يتحدث بما لايعرف " (1) .
فعابه ما يقول هؤلاء ـ إذا سئلوا عن الملائكة ـ بأنهم أجساد نورانية قابلة للتشكل ، وهذا الكلام نفسه كلام غير منطقي ، كلام لايستسيغه العقل فإن النور لايقوم بنفسه ، بل لا بد من أن يكون قائما بغيره ، يقوم بجرم كثيف وتشكل الأجساد أمر غير مقبول ، ثم إن هؤلاء يقولون بأن ملائكة في الأرض وملائكة في السماء ، فلو سئل هؤلاء أين أماكن ملائكة الأرض ، كيف يمكنهم أن يجيبوا ، هل يحسون بأثر من أقتراب الملكين ، الذين يكتبان أعمالهم حولهم هل يشهدان النور الذي يتلألأ من وجود هذين الجسدين النيريين المخلوقين من النور ، هل بإمكانهم أن يعرفوا كيف تنقلان هؤلاء.... إلى أخر ما قاله (2) .
__________
(1) ـ المرجع السابق .
(2) ـ المرجع السابق ج1 ص273 .
(1/15)
هذا الكلام على أي حال ليس فيه حجة في رعد المعتقد الصحيح ، كون الملائكة خلقوا من نور أمر غير مستحيل ، فالله سبحانه وتعالى أخبرنا عن الشيطان بأنه خلق من النار ، حكى الله تعالى قول إبليس – لعنه الله - : " خلقتني من نار وخلقته من طين " سورة ص/16 وقرر هذا القول ولم يرده ، وقال الله تعالى : { والجان خلقناه من قبل من مارج من نار } سورة الحجر/27 ،فإذن الجان خلقوا من نار ، والنار كالنور بحسب معرفة الناس النار كالنور ، لا تقوم النار بنفسها بل لا بد من أن تشتعل في جسم ، جسم كثيف تشتعل فيه ، هذا هو المألوف في النار ، فإذن كما أن هذا الكيان حصل كيان الشياطين وقد خلقوا من نار ، فإذا لا يستحيل أن يخلق الله سبحانه وتعالى الملائكة من نور ، لا يتعذر أن يكون هؤلاء الملائكة قادرين على التشكل بما أودعه الله سبحانه وتعالى فيهم من الطاقات .
تناقضات السيد رشيد رضا
وقد تعجبت كثيرا ؛ لأن السيد رشيد رضا ـ الذي يوافق أستاذه الإمام محمد عبده على هذا الرأي الشاذ في الملائكة ويقرر بنفسه أن الذين يقولون بأن الملائكة أجساد نورانية قابلة لتشكل ، ينطقون بما لم يكن مفهوما تسليما منهم بغير علم ، يقرر ذلك في تعليق على المنار ـ نجده بنفسه يأتي ببعض العجائب من الأمور غير المقبولة التى تناقض رأيه هذا .
(1/16)
السيد رشيد رضا ـ في حاشيته له على كتابه "الوحي المحمدي " (1) ـ ذكر قصة ـ على حسب ما ذكرـ وقعت في باريس ، هذه القصة غير مقبولة شرعا ، قصة غير مقبولة شرعا .. ذكر أن أحداً من الناس حضر في مجلس تحضير الأرواح ، فاحضرت روح أمراة فرنسية ، ظهرت أولا على شكل ضباب أو غبار ثم تكثفت ، حتى صارت جسما جميلا ، ناعما مغريا ، وأحد الحاضرين هناك ، طلب منها – أي من هذه الروح التى ظهرت في جسم هذه المرأة الجميلة – طلب منها أن تعطيه قطعة من ثيابها ، وكانت تلبس حسب مايبدوا – ثيابا بيضاء براقة ، فاقتطعت لها قطعة من ثوبها وما لبثت أن عادت مكانها أخرى ، حتى عاد الثوب كما هو ، فذهب هذا الإنسان إلى مصانع النسيج بباريس وسألهم ... سأل أصحاب هذا المصنع ، هل يوجد مثل هذا الثوب المهلهل عندكم قالوا : لا ، إلا إن ابتكر صنعه (2) .
هذه القصة غير مقبولة شرعا ، هذه المرأة التى أحضرت روحها ، هل هي حية أو هي ميتة ، إن كانت هذه المرأة حية ، فكيف تبقى حية وقد أخرجت منها روحها ، وإن كانت ميتة ، فأنى لأحد أن يكون له سلطان على روحها ، والله تعالى يقول { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت في منامها ، فيمسك التى قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى }سورة الزمر/42 ، ويقول الله سبحانه وتعالى : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا }سورة مريم/98 ، على كلا الأمرين تحضير الأرواح مستحيل ، وإنما هذه الشيطان تحضر لتضلل الناس ، وهذا من الدليل على أن الشياطين أيضا يتشكلون .
وذكر قصة أخرى في معرض الحديث عن الصوفية بأن أرواحهم تتجرد أحيانا ، وذكر بأن ممن وقع له ذلك ابن عربي (3) ، وقضيب البان (4) ، وذكر من عجائب قضيب البان أنه طلب الحضور محاكمته ضده مرة ، جاء إليه أحد من قبل الحاكم ليخرجه إلى المحاكمة ، فإذا به يملا البيت الذي هو فيه ، ولا يمكن أن يخرج من الباب (5) !
(1/17)
فإذا كان يثبت لإنسان بان جسده يتضاعف حتى يملأ البيت الذي هو فيه ولا يمكن أن يخرج من الباب ، أو أن يخرج من الباب ... فكيف يجعل من المستحيل للملك الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى الطاقات التى لم يعطها للإنسان بأن يتشكل وينتقل من شكل إلى آخر ؟!!
الملائكة ذوات عاقلة
إذا جئنا إلى أيات القرآن الكريم وجدنا هذه الأيات كلها تدل على أن الملائكة لا يمكن بأن يفسروا بأنهم خاصيات في الكائنات الموجودة ، أو أنهم أرواح ، وإنما الأيات تدل على أن الملائكة هم ذوات عاقلة ؛ لأن وصفهم وصف عقلاء :
فالله تعالى يقول : { جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة }سورة فاطر/1 ، لفظة {أولى } لاتستعمل إلا في جنس العقلاء .
ويقول الله سبحانه وتعالى : { بل عباد }سورةالانبياء/26 ، الخاصيات لاتوصف بهذا اللفظ – لفظ عباد – لا يقال بأنها عباد ، لاتسمى عبادا ... { بل عباد مكرمون } مكرمون جمع مذكر سالم خاص بالعقلاء ، { لايسبقونه بالقول } لا يسبقونه ؛ هذا الوصف لا يكون إلا في العقلاء ، الصبغة هذه لا يمكن إلا أن تكون في العقلاء .
{ لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } هذه الصيغة أيضا لا تكون إلا في العقلاء .
(يعلم ما بين أيديهم } هذه الصيغة في العقلاء.
{ وما خلفهم } هذه الصيغة أيضا خاصة بالعقلاء.
{ ولايشفعون إلا لمن ارتضى } صيغة { يشفعون } هذه خاصة بالعقلاء .
{ وهم } هذه أيضا خاصة بالعقلاء ، { من خشيته مشفقون } هذه الصيغة خاصة بالعقلاء .
{ يسبحون الليل والنهار لايفترون } هذه الصيغ خاصة بالعقلاء .
هذه الاوصاف كلها إنما هي أوصاف العقلاء .
(1/18)
والإلهام لايلزم أن يكون بأتصال الجسد بالجسد ، فإن هذه الإلهام إنما هو بما أودع الله سبحانه وتعالى في الملائكة من طاقات روحانية لا تكتنهها عقول البشر ، بل جعل الله سبحانه وتعالى هذه الطاقة الروحانية ، في بعض البشر أنفسهم ، فالتنويم المغناطيس بماذا يتم ؟ كيف يستطيع أحد أن يؤثر على أحد حتى ينام ؟ هل يتصل بجسده ؟ ... لا ... بل قرأت في أحد الصحف بأن التنويم المغناطيسي يحصل حتى بالاتصال بالهاتف ، والله سبحانه وتعالى أخبر عن إبليس بأنه من جنس الجن ، وحكى قوله : { خلقتني من نار وخلقته من طين } وأخبر سبحانه وتعالى عن وسوسة الشيطان ... لايشعر ، فما دمنا نحن لانشعر بحرارة نار الشيطان عند اتصاله بنا للوسوسة – والعياذ بالله من شره – فكذلك إلهام الملك إنما يكون من غير إتصال من الملك بالانسان اتصالا جسمانيا ، وإنما هو اتصال روحاني ، ولا ينافي ذلك أن يكون الملك جسم نوراني كما دل حديث عائشة – رضي الله تعالى عنها – أن الملائكة خلقوا من نور .
فالإيمان بالملائكة ، إيمان بعالم مغيب ، وعلينا أن نؤمن بهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى ، والإنسان نفسه يحس بإلهام الشئ الذي لم يكن يتصور من قبل ، عندما يتردد بين أمرين ، بين أن يفعل أو أن لا يفعل يحس أحيانا بالإلهام ، كأن زاجرا يزجره عن الفعل ، فإذا به يرى أن ذلك الفعل مغبنه سيئة ، أو أن دافعا يدفعه إلى الفعل فيرى أن ذلك الفعل مغبنة حسنة ، هذا من الإلهام الذي يكون بواسطة هؤلاء الملائكة كما أراد الله سبحانه وتعالى .
الخلاصة
(1/19)
فعلينا أن نؤمن بالملائكة إيمانا جازما ، بأن الملائكة هم – كما أخبر الله تعالى عنهم – عباد مكرمون ، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، وأنهم يسبحون الليل والنار لا يفترون ، وأنهم مؤكلون بأعمال مختلفة ، وأنهم يطيعون الله سبحانه وتعالى في كل ما أمرهم به ، وفي كل ما نهاهم عنه ، أما ما ذكر في كثير من كتب التفسير ، من قصة هاروت وماروت - القصة المفتراه _ بأنهما زنيا بامرأة – كانا ملكين وزنيا إلى آخر ماذكروه فإن ذلك باطل ، لا يجوز قبوله أبدا ، لمنافاته ما وصف الله سبحانه وتعالى به الملائكة ، وهذه من دسائس اليهود ، فقد حشيت – مع الاسف – كتب التفسير بدسائس اليهود ، وقد نبهت على ذلك في درس التفسير ، في تفسير هذه الآية الكريمة (1) ، وأرجو أن أوقف لتدوين ما قلته (2) ، وبينت أن ماقيل من ذلك لا أساس له من الصحة ، لم يثبت سنده ، بجانب مخالفته للنصوص القاطعة التى لا تقبل التأويل في أن الملائكة منزهون عن مثل هذا الرذائل ، فهم ليست فيهم شهوات ، جعلهم الله سبحانه وتعالى مجردين من الشهوات كما جرد البهائم من العقول ، ولذلك كان الإنسان – كما يقول بعض العلماء – الانسان الذي يقوى على شهوته فيضبطها ، خيرا من الملائكة لأن عقله رجح على شهوته بخلاف الذي تقوى شهوته عليه فتسخر عقله ، فهذا شر من البهائم ، لأن البهائم خلق الله سبحانه وتعالى لها شهوات ولم يخلق لها عقولا .
__________
(1) ـ لقد بسط سماحة الشيخ المفتي في الجزء الثالث الصفحة65 وما بعدها من تفسيره المبارك :جواهر التفسير القول في هذه المسألة ، و دحض ما اعتمد عليه الاستاذ الامام من أدلة عقلية ونقلية . فارجع إليه إن شئت.
(2) ـ تم تدوين دوس التفسير وصدرت منه حتى طباعة هذهه المحاضرة ثلاثة أجزاء بعنوان حواهر التفسير أنوار من بيان التنزيل ،ولاتزال وقد انتهى سماحته من تفسير سورة البقرة في شهر من عام 1422هـ .
(1/20)
وفي الدرس الآتي سنوالى حديثنا – إن شاء الله – عن الإيمان بالملائكة ونتحدث عن الفائدة التي يستفيدها الإنسان في إيمانه بهذا العالم ، من خلق الله سبحانه .
سائلين الله عز وجل التوفيق لما فيه رضاه ، وأن يجنبنا كل مافيه سخطه، وأن يأخذ بأيدينا إلى الخير والهداية والرشد ، إنه ولي التوفيق ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .
والآن أفتح مجالا للأسئلة بشرط أن تكون الأسئلة في نفس الموضوع ، لا تخرج عن موضوع الدرس ، لئلا يستمر بنا الوقت ، أولئلانتمكن من الإجابة على بعض الأسئلة المهمة التى تتعلق بالدرس ... الأسئلة محصورة في موضوع الدرس فحسب .
الأسئلة
السؤال الأول : يقول الله تبارك وتعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة إلا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } سورة الزخرف/30 ، فهل نزول الملائكة إلى هؤلاء العباد ، حسيا أو معنويا ؟ أو كيف يتلقون هذا القول ؟
(1/21)
الجواب : سؤال عن قول الله سبحانه وتعالى { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون ، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ، وهاتان الأيتان من التى تدل على أن الملائكة ليس كما يقول الإمام محمد عبده ، فهذه الأيات من الآيات الدالة على أن الملائكة كما قال السلف بأنهم عباد وأنهم خلق مستقلة ذواتهم ، ولهم صفات خاصة ، الله سبحانه وتعالى أخبر هنا ، بأن الذين قالوا ربنا الله أي الذين أمنوا وأستقاموا على الإيمان تتنزل عليهم الملائكة مبشرة بالجنة ، ألا تخافوا ولا تحزنوا ، جاء في حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مايدل على أن المؤمن عندما يحضر – أي عندما تأتي الملائكة لقبض روحه – يبشر بالروح والريحان ، وهذا يجعله يتشوق للقاء الله سبحانه وتعالى ، جاء ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها – عند ما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – ( من أحب لقاء الله ، أحب الله لقاء ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) قالت عائشة : كلنا يكره الموت يارسول الله ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " ليس الأمر كذلك ، ولكن المؤمن عندما يحتضر يتلقى البشرى من الملائكة بالروح والريحان" (1)
(1/22)
فإذا في هذا الوقت تتنزل الملائكة على المؤمنين:{ ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون } ويبشروهم بأنهم أولياؤهم في الحياة الدنيا ، بحيث يسددونهم ويلهمونهم الخير وأولياؤهم في الآخرة يوم يلقونهم ليقودوهم إلى الجنة ، فالله سبحانه وتعالى قال : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ، لا يسمعون حسيسها وهم في ما أشتهت أنفسهم خالدون ، لايحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } سورةالانبياء/101، الله سبحانه وتعالى جعل الملائكة مبشرة للإنسان عند قبض روحه إذا كان مؤمنا ، مبشرة له عند قبض روحه ، كما جعل الملائكة أيضا يتلقونه يوم القيامة .
السؤال الثاني : السائل يقول :هناك أدلة عقلية ونقلية لوجود الملائكة بالنسبة لنا نحن المسلمين ، فهل نقدم الدليل النقلي على الدليل العقلي ، رغم بأننا بحاجة إلى الدليل العقلي لاثبات وجود الملائكة لغير المسلمين ؟ .
(1/23)
الجواب : الدليل العقلي كما قلت هو دليل تجوز وجود الملائكة ، والدليل النقلي هو دليل إثبات وجود الملائكة ، فنحن لا نستغنى عن الدليل العقلي ، ولا نستغني عن الدليل النقلي ، نؤمن بالنقل حقا من عند الله ، ولكن هذا النقل لم يأت أبدا مصادما للعقل ، كل ما جاء في كتاب الله وفي السنة الصحيحة ، هو منسجم تمام الإنسجام ، مع العقل السليم – ليس مع كل العقول – مع العقل السليم – فالعقل الباقي على الفطرة يستسيغ كل ما أخبر الله تعالى عنه وما أخبر عنه الصادق الأمين – عليه أفضل الصلاة والتسليم - ، وإذا تحدثنا عن الذين لا يؤمنون بعالم الغيب ، يجب قبل كل شيء أن نتحدث إلى هؤلاء في القضية الكلية قبل أن ندخل في الكليات ، نحاول أن نثبت لهم بأن هنالك عالما غيبيا لا يقع تحت الحواس نثبت ـ أولا ـ وجود الله سبحانه وتعالى ، بأدلة وجود هذا الخلق ، وجود هذا الكون بأسره الذي تنطق كل ذرة من ذراته بأنها محتاجة إلى الخالق سبحانه وتعالى ، وأن لها خالقا مبدعا مكونا ، واحدا ليس كمثله شئ ، كل ذرة من ذرات الكون تنطق بذلك ، نثبت لهم أدلة من هذا الكون بعد ذلك ندخل في إثبات النبوات ، بعد إثبات النبوات نتحدث عما جاءت به النبوات من أخبار عالم الغيب إليهم ، ونبين لهم أن كل ماجاء من أخبار النبوات لا يصطدم مع العقل أبدا .
السؤال الثالث : يقول السائل : قال تعالى { وإذ قال ربك للملائكة إن جاعل في الارض خليفة ، قالوا أتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } قرأت في بعض التفاسير ، في تفسير قوله تعالى على لسان الملائكة { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } أن الملائكة كانت تطمع في أن تكون لها الخلافة ، وذلك بحكم عبادتها لله وطاعتها له ، فهل هذا صحيح .
(1/24)
الجواب : الواقع هذا لم يكن اعتراضا من الملائكة على الله عز وجل ، ابدا ... ليس اعتراضا من الملائكة على الله ... .. وإنما كان هذا استطلاع منهم للحكمة يريدون أن يعرفوا حكمة الله سبحانه وتعالى لأنهم عرفوا طبيعة هذا المخلوق ، أدركوا من طبيعة هذا المخلوق من حيث إنه له إرادة وفيه شهوة ، وتتجاذبه نوازع متعددة وتدفعه دوافع مختلفة ، أدركوا من طبيعة هذا المخلوق أن يتمرد ويعصي الله عز وجل ، لما أدركوا ذلك أرادوا أن يعرفوا حكمة الله فقالوا { أتجعل فيها } – لا على سبيل الاعتراض – ولكن لأجل الاطلاع على حكمة الله ، طلبوا معرفة حكمة الله سبحانه وتعالى فأجابهم الله بما أجابهم به { إني أعلم ما لا تعلمون } فالقول بأنهم كانو ا طامعين في الخلافة إلى آخره الدليل على ذلك ، وقوله { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } أي نحن نسبحك ، ننزهك عن الأعمال التى هي عارية عن الحكمة ، ننزهك يا ربنا عن شئ لايتفق مع الحكمة ، فمن هنا نريد أن نعرف ماهي الحكمة ، كانوا يتطلعون إلى الحكمة .
السؤال الرابع :هنا سؤال يقول : هناك كثير من الناس يؤمنون بالسحر ، ومن أمثلة ذلك ظهور الميت بعد وفاته ، بل يؤمنون بها كل الإيمان ، وربما تكون القصة التى ذكرها محمد رشيد رضا ، عن الشخص الذي أحضر روح المرأة بحيث جعلها ، بعد ذلك على صورة إنسان جميل هي من فعل السحر ، الذي يستخدم فيه الشياطين ن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق