السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخواتي الكرام، مع قلة معرفتي باللغة والأدب، إلا أني أحببت مشاركتكم بهذا الموضوع المقتبس من كتاب سيد قطب "التصوير الفني في القرآن".
وحقيقة وجدت أن الكتاب يعطي نظرة جديدة لكيفية التعامل مع القرآن الكريم، ويلفت النظر إلى أمور فنية قد لا يلتفت إليها الكثير، وإن يلتفت إليها البعض فإنه قد يرى منها القشور فقط. رغم أن وراء ذلك آفاقا بعيدة من الأمور الفنية التي تساهم بلا شك، في إعطاء الصورة الكاملة التي يرسمها النص القرآني المعجز.
يحاول سيد قطب في هذا الكتاب أن يسلط الضوء على الجانب الفني في القرآن الكريم، ويجد أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، هذا التصوير الذي يقلب كل شيء إلى صورة ذات حركة وإيقاعات صوتية، بل ويتحكم في درجة الألوان، والإضاءة، والحجم، ونوع الإطار، وسرعة عرض المشهد كذلك.
يقول سيد (...فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظّارة، وحتى ينقلهم إلى مسرح الحوادث الأول، الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع. فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات، المنبعثة من الموقف، والمتساوقة مع الحوادث....إنها الحياة هنا، وليس حكاية الحياة(.
ويحاول سيد قطب في هذا الكتاب أن يرتقي بنا شيئا فشيئا في هذا الصرح الفني الشامخ، فيبدأ بإثبات أن التصوير هو الأداة المفضلة في القرآن الكريم، ثم يلفت الانتباه إلى أن هذه الصور المرسومة ليست صامته، وإنما هي متحركة، ويسمي ذلك "التخيل الحسي". ثم يقول أن هذه الصور تكاد تجسم كل شيء، فالكل أجسام حية تنبض بالحياة.
ثم يتكلم عن التناسق الفني في لقرآن الكريم، فيتكلم عن تناسق الصورة مع أجزائها المختلفة، ثم يتكلم عن الإيقاعات المصاحبة، ثم يتكلم عن أجزاء الصورة، وألوانها، وأطرها، ثم يتكلم عن مدة عرض المشهد الفني.
وحقيقة أعلم أن موضوعي هذا سيكون مقتضبا كثيرا، ولن يوفي الموضوع المطروح حقه، لذلك فأنا أنصح بقراءة الكتاب المذكور، فهو كتاب جميل، يحمل وحدة متكاملة من المعاني المتراصة التي تأخذ بلب القارئ، فلا يكاد يبدأه حتى ينتهي منه، وهو على كل حال، ليس بالكتاب الطويل.
والله أسأل التوفيق والسداد.
التصوير الفني:
إن مما لا يخطئه القارئ للقرآن هو كثرة المشاهد التصويرية فيه، فالتصوير كما يلخص سيد قطب "هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن الكريم، وهو القاعدة الأولى فيه للبيان، وهو الطريقة التي يتناول بها جميع الأغراض، وهو الخصيصة التي لا يخطئها الباحث في جميع الأجزاء"
وإذا كانت أول مرحلة نحتاج أن نعبرها في سلم صرحنا الفني الشامخ، هي إثبات خاصية التصوير في القرآن الكريم. وإذا كان سيد قطب قد تتطرق إلى عدد غير قليل من الأمثلة في ذلك، وهو غير غافل عن الأغراض الفنية للقرآن الكريم، فإننا سوف نكتفي بمثال واحد!، وليكن عن صورة الهزيمة في القرآن الكريم:
يقول الله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُم ْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُون َ بَصِيراً، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِن ُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِين َ فِي قُلُوبِهِم ْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُه ُ إِلَّا غُرُوراً، وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً) (الأحزاب:9 -13) "فأية حركة نفسية أو حسية من حركات الهزيمة، وأية سمة ظاهرة أو مضمرة من سمات الموقف، لم يبرزها هذا الشريط الدقيق
المتحرك، المساوق في حركته لحركة الموقف كله؟
إنه يرسم مشهد الهزيمة كاملا، مشهد تبرز فيه الحركات الظاهرة والانفعالات المضمرة، وتلتقي فيه الصورة الحسية بالصورة النفسية.
هؤلاء هم الأعداء يأتون المؤمنين من كل مكان، وهذه هي الأبصار زائغة والنفوس ضائقة. وهؤلاء هم المؤمنون يزلزلون زلزالا شديدا. وهؤلاء هم المنافقون ينبعثون بالفتنة والتخذيل. ويقولون: " مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُه ُ إِلَّا غُرُوراً"، ويقولون لأهل المدينة: ارجعوا إلى بيوتكم فهي في خطر. وهؤلاء هم جماعة من ضعاف القلوب يقولون: إن بيوتنا مكشوفة، وليست في حقيقتها كذلك: " إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً".
وهكذا لا تفلت في الموقف حركة ولا سمة، إلا وهي مسجلة ظاهرة، كأنها شاخصة حاضرة. تلك حادثة وقعت بالفعل. ولكن صورتها ترسم (الهزيمة) مطلقة من كل ملابسة، وما يزيد عليها أو ينقص منها إلا جزئيات في الواقع!. أما الصورة النفسية فخالدة تتكرر في كل زمان، حيثما التقى جمعان، وتعرض أحدهما للخذلان."
"وهذا الأسلوب التصويري يأتي في كل مكان في القرآن الكريم، ولا تكاد تخطئه العين، بل إنه يأتي حتى في الأغراض التي تستدعي المنطق والجدل، كأمر الدعوة إلى الله، وإثبات وحدانيته."
التخييل الحسي:
وبعد أن عرفنا أن التصوير هو الأسلوب الأول للقرآن الكريم، فإنه بقي أن نعرف أن "قليلا من صور القرآن هو الذي يعرض صامتا ساكنا –لغرض فني يقتضي الصمت والسكون- أما أغلب الصور ففيها حركة مضمرة أو ظاهرة، حركة يرتفع بها نبض الحياة، وتعلو بها حرارتها."
وهذه الحركة الحية الظاهرة للعيان، أو المضمرة في الوجدان، هي ما يسميها سيد قطب بـ"التخييل الحسي".
1- لون من ألوان "التخييل" يمكن أن نسميه " التشخيص" يتمثل في خلع الحياة على المواد الجامدة، والظواهر الطبيعية، والانفعالات الوجدانية. هذه الحياة التي قد ترتقي فتصبح حياة إنسانية، تشمل المواد والظواهر والانفعالات، وتهب لهذه الأشياء كلها عواطف آدمية، وخلجات إنسانية تشارك بها الآدميين.
هذا هو الصبح يتنفس: ) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) (التكوير:1 8). فيتخيّل إليك هذه الحياة الوديعة الهادئة التي تتفرج عنها ثناياه، وهو يتنفس فتتنفس معه الحياة، ويدب النشاط في الأحياء، على وجه الأرض والسماء.
وهذا هو الليل يسرع في طلب النهار، فلا يستطيع له دركا ) يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً )(لأعراف:5 4). وهذا هو الليل يسري: )وَاللَّيْ لِ إِذَا يَسْرِ) (الفجر:4). فتحس سريانه في هذا الكون العريض، وتأنس بهذا الساري على هينة واتئاد!
2- ولون من ألوان "التخييل" يتمثل في تلك المشاهد التي لا تريد مغادرة الحس إلا بحركة مفاجئة يترقب وقوعها في كل لحظة. ومن ذلك صورة الذي يعبد الله على حرف ) فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْه ُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ)( الحج: 11). وصورة المسلمين قبل أن يسلموا، وهم) عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ)( آل عمران: 103). وصورة الذي ) أَسَّسَ بُنْيَانَه ُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) (التوبة: 109). فهذه كلها صور تخيل للحس حركة متوقعة في كل لحظة.
3- ولون من ألوان "التخييل" يتمثل في الحركة المتخيلة التي تلقيها في النفس بعض التعبيرات والألفاظ مثل: )وَقَدِمْن َا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَ اهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ) (الفرقان:2 3). فلفظة "قدمنا" تخيل للحس حركة القدوم التي سبقت نثر العمل كالهباء. وهذا التخييل يتوارى بكل تأكيد لو قيل: "وجعلنا عملهم هباء منثورا". غير أن كلمة "قدمنا" أعطت مع حركة النثر وصورة الهباء طابعا حركيا في هذه الصورة القرآنية.
4- . "ولون من ألوان "التخييل" يتمثل في تلك الحركات السريعة، كصورة الذي يشرك بالله ) فَكَأَنَّ مَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُ هُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)(ا لحج: 31 ) 7 وشبيهة بها في سرعتها وتعدد مناظرها تلك الحركة المتخيلة في قوله: )مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَ ةِ فَلْيَمْدُ دْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ َ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) (الحج:15)"، وهكذا نرى كيف صورت الآيات القرآنية حالة الذي يشرك بالله في تلك المشاهد السريعة المريعة.
5- "ولون من "التخييل" يتمثل في الحركة الممنوحة لما من شأنه السكون كقوله: ) وَاشْتَعَل الرَّأْسُ شَيْباً)(م ريم:4)، فحركة الاشتعال هنا تخيل للشيب في الرأس حركة كحركة اشتعال النار في الهشيم، فيها حياة وجمال".
التجسيم:
وظاهرة أخرى تتضح في تصوير القرآن وهي "التجسيم": تجسيم المعنويات المجردة، وإبرازها أجساما أو محسوسات على العموم. وذلك أعمق من قضية التشبيه والتمثيل، فالمعنويات هنا بنفسها صيّرت وحولت إلى أجسام.
لنرى الأمثلة:
1- يقول: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)( آل عمران30). ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف: 49). أو ( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِ كُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) (البقرة: 110). فيجعل كأن هذا العمل المعنوي مادة محسوسة. تحضر (على وجه التجسيم) أو تَحضر هي (على وجه التشخيص). أو توجد عند الله كأنها وديعة تُسلّم هنا فتتسلم هناك.
وقريب من هذا تجسيم الذنوب كأنها أحمال، تحمل على الظهور زيادة في التجسيم: (وَهُمْ يَحْمِلُون َ أَوْزَارَه ُمْ عَلَى ظُهُورِهِم ْ ) (الأنعام: 31)
2- ويتحدث عن حالة نفسية معنوية هي حالة التضايق والضجر والحرج. فيجسمها كحركة جسمانية: (وَعَلَى الثَّلاثَة ِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ) (التوبة: 118). فالأرض تضيق عليهم، ونفوسهم تضيق بهم كما تضيق الأرض، وهكذا يستحيل الضيق المعنوي في هذا التصوير ضيقا حسيا، وهكذا تتجسم حالة هؤلاء الذين تخلفوا عن الغزو مع الرسول، فيحسون بهذا الضيق الخانق، ويندمون على تخلفهم.
3- ويصف حالة عقلية أو معنوية، وهي حالة عدم الاستفادة مما يسمعه بعضهم من الهدى، وكأنهم لم يسمعوا به، فيجعل كأنما هناك حواجز مادية تفصل بينهم وبينه. مثل: (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُول ُونَ) (الشعراء:2 12)، أو (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم ْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوه ُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً )(الأنعام: 25). أو (أَفَلا يَتَدَبَّر ُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24، أو (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَا نِ فَهُمْ مُقْمَحُون َ، وَجَعَلْنَ ا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم ْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْ نَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُون َ) (يّـس:8-9)، وهكذا كلها تجسّم هذه الحواجز المعنوية، وكأنما هي موانع حسية، وهي في هذه الصورة أوقع وأظهر.
4- ويكون الوصف حسيا بطبيعته، فيختار عن الوصف هيئة تجسمه. كقوله: (يَوْمَ يَغْشَاهُم ُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِ مْ)(العنكب وت55) في مكان: يأتيهم من كل جانب أو يحيط بهم. لأن هيئة الغشيان من فوق ومن تحت أدخل في الحسية الوصف بالإحاطة. ومثله (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)( الأحزاب10) ومثله ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)(المائد ة , 66 (
5- ومن "التجسيم" وصف المعنوي بمحسوس، كوصف العذاب بأنه غليظ ( وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ)(ا براهيم17). واليوم بأنه ثقيل ) وَيَذَرُون َ وَرَاءَهُم ْ يَوْماً ثَقِيلاً)( الانسان27) . فينتقل العذاب من معنى مجرد إلى شيء ذي غلظ وسمك، وينتقل اليوم من زمن لا يمسك إلى شيء ذي كثافة ووزن.
6- وضرب الأمثلة على المعنوي بمحسوس، كقوله (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ )(الأحزاب4 ) لبيان أن القلب الإنساني لا يتسع لاتجاهين. ومثل (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً )(النحل92) لبيان العبث في نقض العهد بعد المعاهدة. ومثل: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً)(ا لحجرات12) لتفظيع الغيبة، حتى لكأنما يأكل الأخ لحم أخيه الميت!.
7- ثم لما كان هذا التجسيم خطة عامة تشاهد في كثير من صور القرآن الكريم، صوّر الحساب في الآخرة كما لو كان وزنا مجسما للحسنات والسيئات: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَ ةِ )(الأنبياء 47). (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُ ه،.. .... وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُ هُ) (القارعة:7 -8). (َإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا )(الأنبياء 47). (وَلا يُظْلَمُون َ فَتِيلاً)( النساء 49). ( وَلا يُظْلَمُون َ نَقِيراً)( النساء) وكل ذلك تمشيا مع تجسيم الميزان.
"وكثيرا ما يجتمع التخييل والتجسيم في المثال الواحد من القرآن، فيصور المعنوي المجرد جسما محسوسا، ويخيل حركةً لهذا الجسم أو حوله من إشعاع التعبير.
فمن ذلك: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُ هُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ )(الأنبياء 18). )وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِم ُ الرُّعْبَ) (الحشر2). (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامةِ )(المائدة6 4). (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه ُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(التو بة26). (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة ِ )(الإسراء 24)
فكأنما الحق قذيفة خاطفة تصيب الباطل فتزهقه. وكأنما الرعب قذيفة سريعة تنفذ في القلوب لفورها. وكأنما العداوة والبغضاء مادة ثقيلة، تلقى بينهم، فتبقى إلى يوم القيامة. وكأنما السكينة مادة مثبتة تنزل على رسول الله وعلى المؤمنين. وكأنما الذل جناح يخفض من الرحمة بالوالدين. وفي كل مثال من هذه تجسيم، بإحالة المعنى إلى جسما، مع التخييل بحركة هذا الجسم المفروضة.
وبهذه الطريقة المفضلة في التعبير عن المعاني المجردة، سار الأسلوب القرآني في أخص شأن يوجب فيه التجريد المطلق، والتنزيه الكامل: فقال ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم ْ )(الفتح 10). (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)( هود7). (وَسِعَ كُرْسِيُّه ُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض َ)(البقرة2 55). (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ )(فصلت11). ( وَالْأَرْض ُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّا تٌ بِيَمِينِه ِ)(الزمر67 ). ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى )(لأنفال17 ). (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ )(البقرة24 5). (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَك ُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر:22) . (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِم ْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)(المائدة64). (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُك َ إِلَيَّ )(آل عمران 55(.
وثار من ثار الجدل حول هذه الكلمات، حينما أصبح الجدل صناعة، والكلام زينة. وإن هي إلا جارية على نسق متبع في التعبير، يرمي إلى توضيح المعاني المجردة وتثبيتها، ويجري على سنن مطرد، لا تخلف فيه ولا عوج، سنن التخييل الحسي والتجسيم في كل عمل من أعمال التصوير.
ولكن إتباع هذا السنن في هذا الموضع بالذات، قاطع في الدلالة، كما قلنا، على أن هذه الطريقة في القرآن أساسية في التصوير."
التناسق الفني:
حينما نقول: إن التصوير هو القاعدة الأساسية في التعبير، وإن التخييل والتجسيم هما الظاهرتان البارزتان في هذا التصوير، لا نكون قد بلغنا المدى في بيان الخصائص القرآنية بصفة عامة، ولا خصائص التصوير القرآني بصفة خاصة. فوراء هذا وذاك آفاق أخرى يبلغ إليها النسق القرآني. هناك التناسق الذي يبلغ الذروة في تصوير القرآن، والتناسق درجات، ومن هذه الألوان ما تنبه إليه بعض الباحثين في بلاغة القرآن، ومنها ما لم يمسسه أحد منهم حتى الآن.
ولما كانت نقلة بعيدة أن نقفز من هذه السطوح المستوية إلى تلك القمم الشامخة، فإننا سنختار أن نرقى إلى هذه الآفاق خطوة بعد أخرى، حتى نتطلع إلى قمتها البعيدة.
1- هناك المواضع التي يتناسق فيها التعبير مع الحالة المراد تصويرها، فيساعد على إكمال معالم الصورة الحسية أو المعنوية. وهذه خطوة مشتركة بين التعبير للتعبير، والتعبير للتصوير.
مثال ذلك: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ ِ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُون َ) (الأنفال:22 )، فإن "الدواب" تطلق عادة على الحيوان، وإن كانت تشمل الإنسان فيما تشمل لأنه يدب على الأرض، ولكن شمولها هذا للإنسان، ليس هو الذي يتبادر إلى الذهن، لأن للعادة حكمها في الاستعمال. فاختيار كلمة "الدواب" هنا، ثم تجسيم الحالة التي تمنعهم من الانتفاع بالهدى بوصفهم "الصم البكم" كلاهما يكمل صورة الغفلة والحيوانية ، التي يريد أن يرسمها لهؤلاء الذين لا يؤمنون لأنهم "لا يعقلون".
2- وقد يستقل لفظ واحد، لا عبارة كاملة، برسم صورة شاخصة. وهذه خطوة أخرى في تناسق التصوير. خطوة يزيد من قيمتها أن لفظا مفردا هو الذي يرسم الصورة، تارة بجرسه الذي يلقيه في الأذن، وتارة بظله الذي يلقيه في الخيال، وتارة بالجرس والظل جميعا.
تسمع الأذن كلمة "اثاقلتم" في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) (التوبة38) ، فيتصور الخيال ذلك الجسم المثّاقل، يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل. إن في هذه الكلمة "طنّا" على الأقل من الأثقال! ولو إنك قلت: تثاقلتم، لخف الجرس، ولضاع الأثر المنشود.
ونوع آخر من تصوير الألفاظ بجرسها يبدو في سورة الناس: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاس، إِلَهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَا سِ الْخَنَّاس ِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ِ) (الناس:1-6). أقرأها متوالية تجد صوتك يحدث "وسوسة" كاملة تناسب جو السورة، وجو الوسوسة.
وهناك نوع من الألفاظ يرسم صورة الموضوع، ولكن لا بجرسه الذي يلقيه في الأذن، بل بظله الذي يلقيه في الخيال، وللألفاظ كما للعبارات ظلالا خاصة يلحظها الحس البصير، حينما يوجه إليها انتباهه، وحينما يستدعى صورة مدلولها الحسية. مثال ذلك: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخ َ مِنْهَا)(ل أعراف175) فالظل الذي تلقيه كلمة "انسلخ" يرسم صورة عنيفة للتملص من هذه الآيات، لأن الانسلاخ حركة حسية قوية.
وقد يشترك الجرس والظل في لفظ واحد مثل (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً) (الطور:13) فلفظ دعّا يصور مدلوله بجرسه وظله جميعا. ومما يلاحظ هنا أن "الدع" هو الدفع في الظهور بعنف، وهذا الدفع في كثير من الأحيان يجعل المدفوع يخرج صوتا غير إرادي فيه عين ساكنة هكذا "أع" وهو في جرسه أقرب ما يكون إلى جرس "الدّع"!.
3- وهناك تلك المقابلات الدقيقة بين الصور التي ترسمها التعبيرات (والتقابل طريقة من طرق التصوير وطريقة من طرق التلحين) والتعبير القرآني يكثر من استخدامها في تنسيق صوره التي يرسمها بالألفاظ على نحو دقيق.
من ذلك هاتان الصورتان السريعتان للبثّ والجمع في قوله )وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض ِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) (الشورى:29 ) فصورة بث الدواب، وصورة جمعها، تلتقيان في سطر، بينما الخيال نفسه يكاد يستغرق مدى أطول في تصورهما واحدة بعد الأخرى. وهذه المقابلة تكاد تطّرد في صور النعيم والعذاب في الآخرة، وهي كثيرة جدا في القرآن.
4- وهناك نوع من التقابل، ولكن لا بين صورتين حاضرتين كما هو الحال هنا، بل بين صورتين إحداهما حاضرة الآن، والأخرى ماضية في الزمان. حيث يعمل الخيال في استحضار هذه الصورة الأخيرة ليقابلها بالصورة المنظورة.
ومن ذلك: ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة، الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَه ُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَه، كَلَّا لَيُنْبَذَ نَّ فِي الْحُطَمَة ِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة ُ، نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَ ةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَة ٍ) (الهمزة:1-9) فصورة الهمزة اللمزة الذي يهزأ بالناس ويلمزهم، والذي جمع مالا وعدده، صورة هذا المتعالي الساخر، تقابلها صورة "المنبوذ" والمنبوذ في "الحطمة" التي تحطم كل ما يلقى إليها، فتحطم كبرياءه وقوته وجاهه، وهي النار "تطّلع" على فؤاده، الذي ينبعث منه الهمز وللمز، ويخفى فيه التعاظم والكبرياء. وتكمله لصورة المنبوذ المحطم المهمل، هذه الحطمة مقفلة عليه لا ينقذه منها أحد، ولا يسأل عنه فيه أحد.
الإيقاعات:
ولآن لنرقى إلى ألوان أخرى من التناسق الفني، لم نتعرض لها حتى الآن:
إن في القرآن إيقاعا موسيقيّا متعدد الأنواع، يتناسق مع الجو ويؤدي وظيفة أساسية في البيان. وحيثما تلا الإنسان القرآن أحس بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه، يبرز بروزا واضحا في السور القصار، والفواصل السريعة، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة، ويتوارى قليلا أو كثيرا في السور الطوال، ولكنه، على كل حال، ملحوظ دائما في بناء النظم القرآني.
ففواصل بداية سورة النجم مثلا، فواصل متساوية في الوزن تقريبا-على نظام غير نظام الشعر العربي- متحدة في حرف التقفية تماما، ذات إيقاع موسيقي متحد تبعا لهذا وذلك، وتبعا لأمر آخر لا يظهر ظهور الوزن والقافية، لأنه ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، ومرده إلى الحس الداخلي والإدراك الموسيقي.
ومثله: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُون َ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَم ُونَ، فَإِنَّهُم ْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِين، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِ ي وَيَسْقِين ِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء:7 5-82) .فقد خطفت ياء المتكلم في "يهدين ويسقين ويشفين ويحيين" محافظة على حرف القافية مع "تعبدون، والأقدمون،والدين...".
ويتنوع نظام الفواصل والقوافي في السور المختلفة، وقد يتنوع في السورة الواحدة، ومن ذلك ما كان في سورة مريم. فالسورة تبدأ بقصة زكريا ويحيي، وتليها قصة مريم وعيسى، وتسير في قافية واحدة، وفجاءة يتغير هذا النسق بعد آخر فقرة في قصة عيسى، فيتغير نظام الفاصلة فتطول، ويتغير نظام القافية فتصبح بحرف النون أو بحرف الميم وقبلهما مد طويل، والظاهر أن كل من ذلك أتي لغرض معين.
وفي سورة النازعات أسلوبان موسيقيان، وإيقاعان ينسجمان مع جوين فيها تمام الانسجام. أولهما يظهر في مقطوعة سريعة الحركة، قصيرة الموجة، قوية المبنى تنسجم مع جو مكهرب، سريع النبض، شديد الارتجاف. والثاني يظهر مقطوعة وانية الحركة، رخية الموجة، متوسطة الطول، تنسجم مع الجو القصصي الذي يلي مباشرة في السورة حديث الكرة الخاسرة، والزجرة الواحدة، وحديث الساهرة.
ولنقرأ نوع ثالث من هذه الموسيقى. إنها موسيقى الدعاء المتموجة الرخية الطويلة الخاشعة:
(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَك َ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَ هُ وَمَا لِلظَّالِم ِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، ..... رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَاد َ) (آل عمران:191-194) وهذا أسلوب يختلف عن الأسلوبين السابقين في سورة النازعات، منسجم مع الدعاء كل الانسجام، بالتطريب والتموج والاسترسال
ثم للنظر إلى لون آخر، لون من الموسيقى المتموجة الطويلة الموجة، التكوين الموسيقي للجملة هنا يزيد على التموج العمق والسعة، وفيه كذلك هول وشجى. إنها موسيقى الطوفان: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِين، قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِ ي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَ ا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (هود:42-43) إن التكوين الموسيقي للجملة ليذهب طولا وعرضا في عمق وارتفاع، ليشترك في رسم الهول العريض العميق. والمدّات المتوالية المتنوعة في التكوين اللفظي للآية تساعد في إكمال الإيقاع وتكوينه واتساقه مع جو المشهد الرهيب العميق.
توزيع أجزاء الصورة:
ثم لنرقى إلى أفق آخر من آفاق التناسق الفني، في التصوير القرآني، وذلك أن القرآن عندما يرسم صورا ويعرض مشاهدا، فإنه يجعل لها أدق مظاهر التناسق الفني في ماء الصورة، وجو المشهد، وتقسيم الأجزاء، وتوزيعها في الرقعة المعروضة، ومن ذلك:
خذ مثالا سورة الفلق، التي هي سورة صغيرة يحسب البعض أنها شبيهة بسجع الكهان أو حكمة السجاع. إن الجو المراد إطلاقه فيها، هو جو التعويذة، بما فيه من خفاء وهينمة وغموض وإبهام.
( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (الفلق:1-5) فالصورة هنا مليئة بجو كله ظلام ورهبة، وخفاء وغموض!. والمدقق في جو الصورة يجد أن جميع أجزائها الصغيرة موزعة على الرقعة توزيعا متناسقا، متقابلة في اللوحة ذلك التقابل الدقيق، وكلها ذات لون واحد، فهي أشياء غامضة مرهوبة، يلفها الغموض والظلام. والجو العام قائم على أساس هذه الوحدة في الأجزاء والألوان.
والقرآن لا يستخدم في التصوير هذه اللمسات الدقيقة وحدها، وإنما يستخدم كذلك "اللمسات العريضة". هذه اللمسات العريضة قد تجمع بين السماء والأرض في نظام، وبين مشاهد الطبيعة ومشاهد الحياة في سياق. حيث تتسع رقعة الصورة لهذا كله، على أساس من "الوحدة الكبيرة" بدل "الوحدة الصغيرة". ومن ذلك:
( أَفَلا يَنْظُرُون َ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية:1 7-20) فهذه ريشة تجمع بين السماء والأرض والجبال والجمال، في مشهد واحد، حدوده تلك الآفاق الوسيعة، من الحياة والطبيعة، والملحوظ هنا هو "الضخامة" وما تلقيه في الحس من استهوال، والأجزاء موزعة بين الاتجاه الأفقي في السماء المرفوعة والأرض المبسوطة، والاتجاه الرأسي بينهما في الجبال المنصوبة والإبل الصاعدة السنام. وهذه دقة تأخذها عين المصور المبدع، في الأشكال والأحجام.
ومما يلاحظ هنا بعين المصور كذلك أن لوحة طبيعية قاعدتاها السماء والأرض، لا يبرز فيها من الجماد إلا الجبال، ولا يبرز فيها من الأحياء إلا الجمال، أو ما هو في حجم الجمال، والجمل هو الحيوان المناسب، لأنه أليف الصحراء الفسيحة التي تحدها السماء والجبال!
إن التناسق إلى هنا كان في الصورة أو المشهد، وكان على أتمه وأوفاه في الجزئيات وفي الجو العام. ولكن الإبداع المعجز لا يقف هنا. إنه في بعض الأحيان يضع إطارا للصورة، أو نطاقا للمشهد، فينسق الإطار والنطاق مع الصورة والمشهد، ثم يطلق من حولها الإيقاع الموسيقي الذي يتناسب هذا كله، كما في سورة الضحى:
) َ الضُّحَى، وَاللَّيْل ِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِر َةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىَ، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى:1-11)
لقد أطلق التعبير جوّا من الحنان واللطف، والرحمة والوديعة، والرضاء الشامل، والشجى الشفيف، وهذا الشجى تتسرب كلها من خلال النظم اللطيف العبارة، الرقيق اللفظ، ومن هذه الموسيقى السارية التعبير، الموسيقى الرتيبة الحركات، الوئيدة الخطوات، الرقيقة الأصداء، الشجية الإيقاع.
فلما أراد إطارا لهذا الحنان اللطيف، ولهذه الرحمة الوديعة، ولهذا الرضا الشامل، ولهذا الشجى الشفيف، جعل الإطار من الضحى الرائق، ومن الليل الساجي , أضفى آنين من آونة الليل والنهار، وأشف أنين تسرى فيهما التأملات, وساقهما في اللفظ المناسب، فالليل هو " وَاللَّيْل ِ إِذَا سَجَى" لا الليل على إطلاقه بوحشته وظلامه، الليل الساجي الذي يرق ويصفو، وتغشاه سحابة رقيقة من الشجى الشفيف، كجو اليتم والعيلة، ثم ينكشف ويجلى، ويعقبه الضحى الرائق، مع " مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىَ". فتلتئم ألوان الصورة مع ألوان الإطار، ويتم التناسق والاتساق.
مدة عرض المشهد:
ثم نرقى أفق آخر من آفاق التناسق الفني في القرآن. فالتصوير القرآني حين ينتهي من تناسق الألوان والأجزاء في الصورة أو المشهد، وحين يطلق حولها الموسيقى المكملة للجو، لا ينتهي عند هذه الآفاق في تناسق الإخراج, إن هناك خطوة وراء هذا كله، ضرورية للتناسق، وضرورية لتأثير المشهد، وللكمال الفني فيه. تلك هي المدة المقررة لبقاء المشهد معروضا على الأنظار في الخيال. والتناسق القرآني يلحظ هذا ويؤديه أرفع أداء.
بعض المشاهد يمر سريعا خاطفا، يكاد يخطف البصر لسرعته، يكاد الخيال نفسه لا يلحقه. وبعض المشاهد يطول ويطول حتى ليخيل للمرء في بعض الأحيان أنه لن يزول. وبعض هذه المشاهد الطويلة حافل بالحركة، وبعضها شاخص لا يريم. وكل أولئك يتم تحقيقا لغرض خاص في المشهد، يتسق مع الغرض العام للقرآن، ويتم به التناسق في الإخراج أبدع تمام.
وللقصر وسائل مختلفة، وللطول وسائل شتى، ويؤدي كل منها الغرض، ويناسب جو المشهد. وهذه خطوة أخرى في ذلك الأفق الجديد.
يقول الله تعالى: ) أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (التكاثر:1 -2) إنه يمسك بطرفي الحياة ويجمعهما في ومضة خاطفة، ولكنه في الوقت ذاته يخيل هيئة الطول فيما بين الطرفين، فمن جانب تصور الآيات قصر الحياة فما كادت تبدأ بالتكاثر، حتى انتهت بالمقابر-ذلك أقصر ما تصوّر به فترة الحياة، في اللفظ والخيال- ولكنها من طرف خفي، قد عرضت امتداد اللهو طول الحياة من مبدئها إلى منتهاها،، وساعدت كلمة "حتى" على بروز الامتداد، فخيلت للنفس أن هؤلاء القوم لجوا في اللهو أمدا طويلا. وذلك من عجائب التخييل، فغرض قصر الحياة، وغرض طول اللهو فيها، كلاهما مقصود، وكلاهما تحقق في هذا النص القصير.
والآن لنعرض هذه اللمسات السريعة العنيفة لهذه الريشة المعجزة، التي تخط لمسة هنا ولمسة هناك، ثم تطوى اللوحة كلها، كأنها ما عرضت قط. فما يكاد الخيال يتلفت ليراها حتى يفتقدها فلا يلقاها:
) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِين َ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُ هُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج:31)
انظر: لقد خر من السماء، انظر: لقد خطفته الطير، انظر: لقد هوت به الريح في مكان سحيق. انظر: لقد اختفى المسرح ومن فيه! ولم هذه السرعة الخاطفة؟ لئلا يتوهم أحد أن لمن يشرك بالله منبتا، أو وجودا، أو قرارا، أو امتدادا، مهما يبلغ من الحسب والقوة والجاه والبنين، إنما يأتي في ومضة من المجهول، ليذهب في ومضة إلى المجهول!
ومن المشاهد المطولة قوله تعالى:
) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُ هُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُ هُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الروم:48)
وقوله:
)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفا ً أَلْوَانُه ُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (الزمر:21(
وقوله:
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاه ُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَةً فَخَلَقْنَ ا الْعَلَقَة َ مُضْغَةً فَخَلَقْنَ ا الْمُضْغَة َ عِظَاماً فَكَسَوْنَ ا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَك َ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: 12-14)
وتعرض هذه المواقف بهذا الطول والتفصيل، وتذكر جميع الخطوات، لأنها معروضة للعبرة، وللتأثير الوجداني، ولبيان دقة العلم الإلهي. فحينئذ يحسن ولا شك التطويل.
وهكذا تتكشف للناظر في القرآن آفاق وراء آفاق، من التناسق والاتساق: فمن نظم فصيح، إلى سرد عذب، إلى معنى مترابط، إلى نسق، متسلسل. إلى لفظ معبر. إلى تعبير مصور. إلى تصوير مشخص. إلى تخييل مجسم،. إلى موسيقى منغمة. إلى اتساق في الأجزاء. إلى تناسق في الإطار. إلى توافق في الموسيقى. إلى تفنن في الإخراج.
وبهذا كله يتم الإبداع، ويتحقق الإعجاز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق