الاشتقاق لابن دريد - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الاثنين، 10 يناير 2022

الاشتقاق لابن دريد

 





الكتاب: الاستقامة - الجزء 3
المؤلف: الإمام أبو سعيد محمد بن سعيد الكدمي (حي في: 272هـ)
تحقيق: محمد أبو الحسن
كان تمام تحقيقه: بمعهد القضاء في الخميس 5 مِن ربيع الأنور سنة 1405هـ يوافقه 29 مِن نوفمبر سنة 1984م
تنسيق: الفاضل هلال بن مصبح الكلباني
hilalmusabah@gmail.com
المصدر: شبكة الدرة الإسلامية
www.aldura.net
كتاب الاستقامة الجزء الثالث
باب ضمان الخطأ وضمتن الفتيا وتصنيف ذلك
باب الفرق بين الرفيعة والفتيا والحُجَج في الدين والفرق في حكم الايمان والكفر
باب تصنيف المحللات والمحرمات من الأملاك
باب اختلاف الرجلين في التحليل والتحريم
باب القول في تحريم الخنزير
باب القول في الميتة والتذكية والذبائح وغير ذلك
باب القول في الصيد وغيره من الدواب والطير
باب ما جاء تحليله من البهائم والأنعام والطير والصيد وما حرم من ذلك بالكتاب والسنة
باب القول في الدماء وتصنيفها
باب في الأشربة وتصنيفها
باب القول في حرمة الخمر من العنب والبسر والنية فيه وقبول قول الواحد والاثنين في أصل الإرادة
باب ذكر النبيذ
باب ذكر الطلاء
باب ذكر الفروج وتحريمها وتحليلها بالنكاح
باب ذكر الفروج والنكاح والقذف
باب ذكر الوطء والفرق بين الفروج والأموال
باب ذكر القذف
باب في الربا وغيره من المحرمات والمحللات
باب الصغائر والكبائر من الذنوب والإصرار وأعمال العباد وأحوالهم فيها
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
خاتمة
(3/1)
باب: ضمان الخطأ وضمان الفتيا وتصنيف ذلك
لا بد من إثبات الحق، وموافقة الحق به الجميع ، ومخالفة العلماء في هذا وأمثاله لا يخرج إلا على وجهين :
وجه منه أنه خطأ أخطأ به ، وهو عالم في الأصل أنه مخالف لما عَلِم ، وهو عالم بالحكم بالحق في ذلك ، مثل مَن علِم أن للزوجة مع الولد الثُمُن ، ولها مع غير الولد الربع ، وللزوج مع الولد الربع ، وله مع غير الولد النصف ، وهذا مذهبه ودينه فأفتى في ذلك بالخطأ ، فأراد أن يقول : لها الثمن مع الولد ، فقال : لها الربع مع الولد . وكذلك الزوج ، وكذلك الأم أراد أن يقول : لها السدُس مع الولد والثلُث إذا لم يكن له ولد ولا إخوة ، فخالف في ذلك من طريق اللفظ ، فعُمِل بذلك من قوله ، فهو سالم في ذلك ، غير هالك ولا ظالم ولا ضامن .
والعامل بذلك، القابل له، والدائن به، أو العامل به، أو الحاكم به خلاف الحق هو الظالم الهالك الضامن لمن أخذ له ذلك، وهو هالك بقليل ذلك و كثيره ، مما يكون له قيمة في الأملاك ، إذا حازه على ذلك .
وقبول ذلك، و الدينونة منه، وقبوله منه على هذا أنه حق وصواب في دين الله، فباطل في ذلك.
وأما ولايته على هذا على الجهالة، فذلك مما هو واسع، لأن العاِلم في هذا سالم في دين الله، لأنه إنما هو أخطأ خطأ مرفوعا عنه.
وهذا ومثله هو خطأ العاِلم المرفوع عنه الذي جاء به الأثر، أن العالم إن أصاب أجِر، وإن أخطأ لم يأثم إذا اجتهد في الصواب وموافقة الصواب. وهذا من اجتهاد العاِلم في الصواب.
فصل: وأما إن لم يكن معه علم في هذا الحكم، فاجتهد في ذلك فأخطأ، فهذا ليس بعالم، وهذا جاهل والجاهل كل من دخل في الأحكام أو الفتيا في الإسلام بالرأي والاجتهاد، بغير علم بالأصول في ذلك الوجه، من وجوه الأحكام التي قد دخل فيها.
(3/2)
وكذلك لو كان عالما بان ذلك من كتاب (لله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم الوجه فيه، وظن أن ذلك جائز له أن يحكم بما شاء من ذلك، ويفتي بما شاء من ذلك، في الزوج بحكم الزوجة، وفي الأم بحكم الأب، وفي الأب بحكم الأم، أو ظن أن له أن يقول فيما قد جاء في حكم الله في دينه، إذ قد علم ذلك، أن يقول برأيه فيما يخالف ذلك، فقال في ذلك برأيه، أو بعمايته أو بجهله، أو باعتماده لمخالفة الحق، ولم يكن ذلك منه خطأ على الوجه الذي ذكرنا، فهو بذلك هالك ظالم، لا يسع قبول ذلك منه ، ولا ولايته على ذلك بدين ، ولا البراءة ممن برىء منه على ذلك ، برأي ولا بدين من العلماء ، ولا الوقوف من العلماء ، إذا برئوا منه برأي ولا بدين ، فافهموا خطأ العالم الذي لا يسع الناس اتباعه فيه ، ولا العمل به من قوله ، ولا ولايته عليه بجهل ولا بعلم ، وخطابه الذي لا يسع قبوله منه ، ولا العمل به ، من قوله بجهل ولا بعلم ، وتسع ولايته عليه بجهل ولا يسع ولايته على من علم خطأه في ذلك ، حتى يعرف معناه ، فإذا عرف معناه وذكره إياه ، فأقام على خطئه ذلك ، بعد العلم والتذكرة ، لم تسع ولايته ، وان قال : إنه إنما قال ذلك بخطأ ، على ما وصفنا من ذلك الخطأ ، كان في ذلك مصدَّقا، إذا رجع عن قول الخطأ، وقال بالحق والهدى، والإجماع من قول أهل العدل، أنه ليس عليه في هذا الخطأ ضمان، فيما أتلف بفُتْياه هذه.
(3/3)
وكذلك الحاكم إذا حكم بهذا الخطأ، الذي وصفنا، على هذه الصفة ، فليس عليه هلكة ولا ضمان ، والقول في الحكم في هذا ، كالقول في العالم ، وكل عالم يحكم من كتاب الله -تبارك وتعالى - ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين ، أو شيء مما أشبه ذلك من الدين علم بذلك ، القول به على وجهه وأصله ، فأخطأ ، فقال بغير ذلك من خطأ لسانه ، فيما يلقيه الشيطان على لسانه ، فليس ذلك من الخطأ المهلك له ، ولا يلزمه في ذلك ضمان ولا تبعة ، ولا معصية في ذلك ، إذا عرف ذلك أنه قد أخطأ فيه ، ولو لم يعرف ذلك حتى مات ، ما كان عليه في ذلك ذنب ، ولا تبعة ولا ضمان .
وكذلك الحاكم ، فهو بمنزلة هذا العالم ، إدْا أراد الحق الذي هو يعرفه ، وعالم به ، فاخطأ بغيره من الخطأ في الأحكام ، فهو مرفوع عنه ، ولو كان ذلك المفتي أو الحاكم من غير العلماء في فنون العلم وأصول الدين ، إلا أنه قد عرف ذلك الشيء بعينه ، من أي وجه كان ذلك الصواب ، الذي قد عرفه من أصول الدين أو الرأي ، فأراد ذلك فأخطأ بغيره ، مما أخطأ به لسانه ، وهذا من الخطأ الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه مغفور لأمته في قوله صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي الخطأ والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما حدّثوا به أنفسهم ".
(3/4)
فكل خطأ في القول، أراد العبد غيره فأخطأ به ، في طلاق أو عتاق أو فُتْيا ، أو قول بكفر أو شرك أو نفاق ، فكل ما أخطأ بغير ما أراد من القول فهو مغفور له، وغير مسئول عنه ، وإذا عرف كان عليه إِظهار ذلك ، إن كان قد أثبت بذلك حكما ، أو ارتكب أخذ بذلك إثما ، فعليه أن يعرف ذلك ، إن قدر على ذلك ، ولو كان ذلك المفتي وذلك الحاكم ، لم يعرف من دين الله غير ما يلزمه في ذات نفسه ، إِلا تلك المسالة بعينها ، فقال بها فأخطأ بغيرها ، مما هو مخالف لدين الله -تبارك وتعالى - ، كان خطؤه في ذلك بمنزلة خطأ ابن عباس ، فيما له فيه الخطأ ، وبمنزلة خطأ أبي الشعثاء جابر بن زيد -رحمه الله - في الفتيا ، وله من العذر في ذلك ما لهما ، وعليه من الحق ما عليهما ، وعليهما ما عليه في هذا .
وإذا تعمد الحاكم أو المفتي إلى الحكم أو القول في نفس الكلمة ، واليها قصد على أنها صواب معه ، فيما ألقى الشيطان على لسانه ، وكان معه أن نفس الكلمة ، التي قال بها أو حكم بها هي الحق فيما قد عرف ، من وساوس الشيطان ، أو أخذ ذلك عن أحد من أهل الأديان ، أو كانت تلك معه زلة من خطأ مخطىء قد أخطأ ، على سبيل ذلك الخطأ الذي وصفنا ، فحكم بذلك أو أفتى به ، فلا عذر له في ذلك بجهل ولا علم ولا خطأ ، فيما يتوهم ويظن ، ولا فيما قد حفظ وعرف من الخطأ والفتن ، وهو بذلك ظالم آثم.
فإن كان أفتى بذلك رواية عن غيره ممن قد عرف عنه، فقبل ذلك من روايته ، فلا ضمان عليه في ذلك في الفتيا ، وأما في الحكم إذا حكم به ، فعليه الضمان في ذلك ، لأنه أتلف مالا ، بذلك الخطأ المخالف للدين ، وليس له أن يحكم بخلاف الحق .
فصل : وأما المفتى فقد قيل فيه باختلاف :
فقال من قال : عليه إِذا أخطأ في الدين ، ولم يتعمد لإتلاف المال التوبة ، ولا ضمان عليه ، والضمان على من ركب ذلك .
وقال من قال : عليه الضمان إذا أحل حراما ، أو حرم حلالا مجمعا عليه .
(3/5)
وأما الحاكم فإذا خالف الحق المجمع عليه ، فهو ضامن ، ولا يسعه ذلك معنا ، وليس الجبر على الآمر ، كالقول على غير الجبر ، وإنما المستفْتَى غير في أن يقبل أو يدع ، ولم يكن له أن يقبل الباطل ، ولا يجبره المفتي له على قبول الباطل ، فهو الذي قبل الباطل ، عليه الخروج عن الباطل الذي قبله ، و الخروج مما دخل فيه ، وليس ذلك على القائل المجبر فيْ قوله القائل والفاعل والحاكم إذا حكم ، فإنما الحكم فيه حتما على من حكم عليه ، وقطعا لحجته عن خصمه ، وليس ذلك كما رأي المحكوم عليه ، ولا يسمع ذلك أيضا المحكوم له ، إذا عرف الأصل الذي به حكم له الحاكم من الباطل ، فهو هالك ظالم ضامن ، والحاكم هالك ظالم ضامن ، والخيار للمحكوم عليه في ذلك في المتلف ، لماله والآخذ له ، ومن أيهما شاء أخذ ماله الذي أتلف من يده .
والحاكم الأول إذا أخطأ الخطأ الذي رفع عنه ، وأجبر على ذلك بالخطأ ، وأتلف به مالا ، ولم يدرك ذلك المال ، فلا يضيع المال في أحكام الإسلام ، ويكون خطأ ذلك الحاكم في بيت مال الله وعلى الإمام إن صدقه في ذلك ، وائتمنه على ذلك ، أن يؤدي عنه من بيت مال الله ، فإن لم يكن لله بيت مال في ذلك الحين ، أو كان قد زال بيت مال الله ، لزوال الإسلام ، ثم عرف الحاكم ذلك الخطأ ، وقد أجبر الحاكم على ذلك ، كان ذلك بمنزلة قتل الخطأ الذي أراد غيره ، فإن خطأه لا يتعدى إتلاف المال من الضمان ، ولا يعقل العواقل ذلك عنه ، فيما معنا ، ولكن له أن ياخذ من الزكاة في ذلك ، ويغرم ولو كان غنيا ، فإن لم يقدر على ذلك ، فلا يبين لنا تلف مال المحكوم عليه ، وان صح ذلك على المحكوم له ، فهو في ماله ولا شيء على الحاكم .
(3/6)
وأما العالم فليس معنا بهذه المنزلة ، لأن العالم غير جائز على قوله ، الا أن يجبر على قوله ، أو يامر بالجبر على قوله ، ويكون مطاعا مع من أمره بذلك ، فيكون حينئذ بمنزلة الحاكم الجابر على حكمه في الوجهين جميعا ، وإنما الاختلاف معنا في المفتي إذا لم يامر بالجبر على قوله ، أو يفتي بذلك ويطاع فيه ، إذا قال ذلك عن نفسه ، أو قال إنه عن فلان العالم ، وهو قوله أو هو يقول بذلك ، أو هو يامر بذلك ، أو يقول إن ذلك هو الحق أو الدين أو الصواب .
وأما إذا قال ذلك أنه مما يروى عن فلان ، أو مما قد قاله فلان ، أو مما قد جاء في الأثر ، أو مما قد وجد في الأثر أو سمع به في الخبر ، ولم يحقق ذلك ولم يصوبه ، ولا قال إنه يقول به ، ولا يامر به ولا ياخذ به ، فليس في ذلك عليه ضمان فيما قد قال ، إذا كان كما قال ، ولم يكذب في ذلك ، ولم يقصد بذلك إلى تحقيق الباطل ليؤخذ به ويدل عليه ، لأنه في ذلك صادق كما قال ، إذا كان صادقا فيما قال ، ولم يصوّب ما قال ، وإنما روى رواية هو صادق فيها غير كاذب ، وضمان ذلك على من عمل به ، ولا نعلم في ذلك اختلافا ، أنه ليس عليه في هذا ومثله ضمان .
فصل : وإذا قال ذلك أيضا بدين يدين به ، وتأويل باطل ، فاتلف بذلك مالا أو شيئا من الدماء أو الفروج ، ثم تاب من ذلك واستغفر ربه ورجع إلى الصواب ، فليس عليه في ذلك ضمان إذا فعل ذلك بدينونة .
و إنما الضمان عليه ، فيما قد قيل في الاختلاف ، إذا قال ذلك على تحرّي الصواب ، بغير قصد إلى دينونة بذلك بتأويل ضلال ، فأخطأ الخطأ الذي لا يعذر فيه ، على نحو ما وصفنا ، وكذب في ذلك وأخطأ في قوله ، فقد قال من قال : عليه التوبة ولا ضمان عليه ، وقد مضى القول في ذلك والحجة فيه.
وقال من قال : عليه الضمان على ما وصفنا ، وقد مضى القول فيه .
وقول من لا يرى عليه الضمان معنا أصح في الأحكام .
وقول من يرى عليه الضمان أحوط له .
(3/7)
وأما الهلاك في الإثم فالاختلاف فيه معنا ، أنه إذا أخطأ الخطأ الذي لا يعذر فيه أنه آثم ظالم هالك بذلك ، إذا أحل ما هو حرام بالإجماع ، أو حرم ما هو حلال بالإجماع .
فصل : وإذا قال ذلك بدين أو تأويل ضلال ، فاتلف بذلك مالا أو دما ، بقوله ودينه ذلك ، ثم أراد التوبة وقد تلف ذلك ، فلا ضمان عليه في ذلك ، ولا نعلم في ذلك اختلافا ، في قول أهل العدل ، وكذلك الحاكم إذا حكم في ذلك بدين وتأويل ضلال برأي يدين به ، ثم تاب ورجع فلا ضمان عليه في ذلك ، فإن أدرك المال بعينه ، أو أدرك من هو في يده ، وكان ممن يحرم ذلك فيما يدين بتحريمه ، فهو ضامن لذلك إذا صح عليه في ماله ، ولو تلف المال ، وأما إذا كان يدين باستحلال ذلك أيضا ، فإذا تلف فلا ضمان عليه في ذلك ، ولا نعلم في ذلك اختلافا .
وإذا أفتى المفتي بشيء من الصواب ، على قصد منه للصواب ، فوافق الصواب في الدين أو الرأي ، فقد وافق الصواب ووفقه الله ، ولا إثم عليه ولا تبعة ، إذا كان ذلك على ما يبين له من صواب ذلك في الوقت ، بعلم ذلك من وجه من الوجوه ، أو بيان ذلك له من وجه من الوجوه .
وإذا أفتى بشيء من الصواب على قصد منه للخطأ والباطل ، فوافى الصواب ، فهو هالك آثم في نيته التي قصد بها إلى ذلك ، ولا غُرم عليه ولا تبعة ، وعليه التوبة من إِرادته .
وإن أفتى بشيء من الصواب على القصد منه إلى ما أفتى به ، ولا يعلم أذلك صواب أم لا فإن قصد إلى ذلك على أنه باطل ، أو أنه لا يبالي قال الباطل أو الحق أو الكذب أو الصدق، فهو آثم بنيته وإرادته ، ولا تبعة عليه في ذلك .
وإن أفتى بشيء من الحق ، وهو يقصد إلى غيره من الحق ، فأخطأ بغيره من وجوه الحق التي تجوز ، وإنما أراد شيئا غير هذا الذي أفتى به من الحق ، فهذا مصيب في نيته موافق من الحق بغير إرادته ، ولا توبة عليه ولا تبعة .
(3/8)
وإن أفتى بشيء من الحق ، وهو لا يقصد إلى باطل ، ولا إلى أن ذلك حق ، وقد تقدم له علم ذلك بوجه من الوجوه ، بها يبين له مما يحسن في عقله ، أو يبين في رأيه ونظره ، إلا أنه لا يقصد إلى الباطل ، ولا أنه لا يبالي قال الحق أو الباطل ، وإنما قال ذلك على نسيان منه ، أو هفوة أو غلط ، أو أنه لا يقول في جميع الأمور إلا الحق ، فقال ذلك على أحد هذه الوجوه ، فهذا قد قيل فيه باختلاف إذا قال ذلك على غير غلط ولا نسيان ، فقال من قال : عليه التوبة من قصده إلى القول بما لا يعلم ولا إثم عليه غير ذلك ولا تبعة .
وقال من قال : قد وافق الحق ، وهو على نية الحق في جملته ، وقد قال الحق فوافق ذلك في علانيته ، فقد أصاب في جملته ما هو دائن به في إرادته ، وقد وافق الحق في سريرته و علانيته . وهذا القول هو أصح القولين .
فصل : وإذا قصد إلى الصواب في الحق فأخطأ بغيره من الباطل ولم يرد ذلك ، وإنما أخطأ بغيره ، والمراد الحق في نيته ، وهو عالم بضد ذلك الباطل من الصواب ، من أي الوجوه كان قد علم ذلك ، على أي الأحوال كان من المنازل من العلم ، إلا أنه قد علم ذلك بأي وجه علمه منه ، فهذا مصيب في نيته ، موافق لغير إرادته من الباطل ، مرفوع عنه خطؤه ذلك في الإثم والحرام والضمان ، ولا تبعة عليه في ذلك .
واذا قصد إلى الباطل ومعه أنه صواب ، وإلى ذلك قصد بعينه على أنه صواب ، من أي الوجوه قصد إليه على أنه صواب ، وهو يحرّم ذلك في دينه ،
ولا يتأول استحلال ما قال في ذلك ، وإنما يستحل ضد ذلك وستصوبه ، فهذا هو المخطىء الدائن بالتحريم ، وهو هالك في قوله مخالف لنيته وإرادته ، ولا تنفعه نيته إذا خالفها في علانيته ، وهذا موضع الاختلاف في ضمانه .
(3/9)
فصل : واذا قصد إلى شيء من الباطل ، وهو يعلم أنه باطل ، فهو هالك بقوله ونيته ، وموافق لارادته ، والقول فيه إذا قصد إلى إتلاف المال والدم بقوله ونيته ، وأطيع في ذلك ، وكان ممن يطاع في ذلك ، فهو عليه الضمان صاغرا لما أتلف من الأموال والدماء ، بذلك الباطل الذي قد قصد إليه ، بقوله ونيته ، ولا يبين لنا في ذلك اختلاف ، إذا كان مطاعا في ذلك الأمر ، الذي دل عليه ودعا إليه ، وهو قاصد إلى إتلافه ، متمرد على الله ، أو على دينه بخلافه ، فالضمان عليه صاغرا راغما ، ولا يبين لنا خلاف ذلك والله أعلم .
واذا قصد إلى الخطأ ، وهو يرى أنه صواب ، أو إلى الباطل وهو يرى أنه حق ، وهو مما يتأول فيه التاويل المخالف للحق ، وهو يذهب في أصل ذلك إلى أنه صواب ، يصوبه ويصوّب الأصول التي يشتق منها ذلك ، وإنما يذهب في ذلك كله أن لو وقف عليه أنه كان يصوبه ، في حين يبطل ضده من الحق ، فإذا كان على هذا ، فهذا هو الدائن بالباطل ، وهو هالك بذلك ، وظالم في حين ذلك ، وعليه الخلاص منه ، فيما تعبده الله به .
وإن قُدِر عليه قبل التوبة أخذه منه المسلمون صاغرا في حين ذلك ، وحين دينونته بالباطل ، في قول من يرى ذلك ، فإذا حكم به إمام العدل ، أو حكام العدل ، وجب ذلك ، فإن تاب من قبل أن يقدر عليه ، أهدر عنه جميع ذلك ، إلا أن يوجد بعينه في يد من كان يدين بذلك أيضا ، أو يكون ذلك قد صار إلى من لا يدين به وأتلفه ، فهو ضامن كذلك في ماله ، إذا كان ممن يحرّم أصل ذلك في دين المسلمين ، والقول في الحكام كالقول في المفتي ، في أمر الهلاك والظلم ، وأما الضمان فالحاكم أوجب ضمانا فيما يلزمه فيه الضمان ، من مخالفة الحق ، وقد مضى في هذا ما فيه كفاية .
(3/10)
وقد يخطىء القابل للباطل ، ولا يخطىء القائل للباطل ، إذا قصد إلى الحق ، فأخطأ بالباطل وهو لا يقصد إلى نفس ما قال به ، ،وإنما قصد إلى القول بنفس الحق فأخطأ في القول ، فزلّت لسانه فقال بالباطل ، فقَبِلَ منه الجاهل وصوّب ذلك الباطل فهلك القابل ولم يهلك القائل .
وقد يسلم الراوي ويهلك القابل والقائل المفتي بالباطل ، إذا لم يعلم القائل الراوي أن ذلك باطل ، ولا صوبه ، ولا قال إنه يقول به ، ولا يدين به ولا يراه صوابا ، وإنما روى ذلك على ما سمعه ووجده ، أو رآه أو أخبر به ، فذلك لا ضمان عليه معنا ولا إثم ، لأنه لم يكذب ولم يقل باطلا .
ولا سلامة من الهلاك لعامل عمل بباطل ، قَبل ذلك الباطل من قائل مصيب ، أو راوٍ مصيب سالم أو من قائل هالك أو رَاوٍ كاذب متكلف ، فهو أحق بالهلاك ولا سلامة له معنا العامل بالباطل ، والدائن بالباطل ولو جهل ذلك ، ولو قَبِل ذلك من عالم أو مائة ألف عالم أو يزيدون . يروي ذلك بعض عن بعض ، ويشهد بذلك بعض لبعض ، وبعض على بعض ، إلى أن يسندوه إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أفاضل الصحابة -رضوان الله عليهم - ، أو إلى حكم الله وحكم كتابه ، فلا عذر لذلك القائل الدائن بذلك الباطل ، أو المصوب لذلك الباطل ، أو المصدق لذلك الكاذب ، أو العامل بتلك المعصية أو لتلك السيئة .
فافهموا - رحمكم الله - هذه الأصول ، وميزوا هذه الدقائق وهذه الفصول ، وهذا يأتي في الفتيا على جميع الأمور ، في دين الله - تبارك وتعالى - ، وفي جميع الأحكام ، وجميع أمور الإسلام ، والقول فيه من جميع القائلين ، والحكم فيه من جميع الحكام .
(3/11)
باب: الفرق بين الرفيعة والفتيا والحُجَج في الدين والفرق في حكم الإيمان والكفر
الفرق بين الرفيعة والفتيا والحُجَج في الدين
والفرق في حكم الايمان والكفر
الفتيا في الولاية والبراءة ، يقع الحكم فيهما مواقع سائر الفتيا في الدين ، فما كان من الفتيا في أمر الولاية والبراءة ، مما لا يسع جهله ، كان جميع المعبرين لذلك حجة على من عبروا له ذلك ، واذا كان ذلك مما يسع جهله ما لم يركبه ، أو يتولى راكبه أو يبرأ من العلماء إذا برئوا من راكبه ، أو يقف عنهم برأي أو بدين ، فلا يكون الحجة في هذا إِلا العالم الثقة الأمين ، بما قد صح له علمه ، وتظاهر له علمه من جميع أصول الولاية والبراءة ، ولو لم يكن عالما بجميع أصول الولاية والبراءة ، فإذا صح له علم في شيء من أصول الولاية والبراءة ، وظهر ذلك وصح منه ، كان حجة في الفتيا في ذلك الأصل .
(3/12)
وذلك الباب من أبواب الولاية والبراءة من جميع ما وصففا ، من أصول الولاية والبراءة ، ولو لم يصح له العلم إلا في أصل واحد ، وكان أمينا من المسلمين فقيها في الدين كان حجة في الفتيا في ذلك الذي قد صح له اسم به ، من أصول الولاية والبراءة ، وليس الحجة في العلم في الفتيا كالحجة في العلم في الرفيعة لأن الرفيعة لا يكون فيها حجة إلا من خصه ذلك بعلم الولاية والبراءة ، فاذا كان لا يكون حجة حتى يكون عالما بالولاية والبراءة ، فمحال أن يكون عالما بالولاية والبراءة حتى يكون عالما بجميع أصولها ، والفتيا ليست كذلك لأن كل عالم بشيء من العلم وبفن من العلم ، وباصل من العلم ، فهو حجة فيه في الفتيا ، واقامة حجة الله على عباده وفي عباده ولعباده ، والولاية والبراءة أصول كثيرة وفنون كثيرة وأبواب كثيرة ،ولا يستحق أحد العلم للولاية والبراءة حتى يكون عالما بجميعها ، ولا يكون حجة في الولاية والبراءة إِلا من كان عالما بها ، هذا ما لا نعلم فيه اختلافا في قول أهل العلم من أهل الاستقامة .
فصل : فإن قال قائل : أليس قد قال من قال من العلماء إِنه من عرف ما يسع جهله مما لا يسع جهله ، فهو حجة في الرفيعة في الولاية والبراءة ، وهو عالم بالولاية والبراءة ؟
قلنا له : نعم هذا من المختصر من الكلام ، والخاص من الأحكام ، لأنه قد قلنا إِنه راجع جميع أصول الولاية والبراءة ، إلى أصل ما يسع جهله وأصل ما لا يسع جهله ، وأخص من ذلك معنا أنه إذا كان يبصر الولاية والبراءة ، وعالما بالولاية والبراءة كان حجة في الرفيعة وحجة في الفتيا ، وكان هذا كافيا من الجواب عن قولك ، إذا أبصر ما يسع جهله وما لا يسع جهله .
(3/13)
ولا يحتاج أحد أن يفسر عندك على مذهبك ، فوق قوله من أبصر الولاية والبراءة كان حجة في الرفيعة ، وجازت رفيعته ، ولا يحتاج إلى أن يقول بعلم ما يسع جهله وما لا يسع جهله ، وأنجز من هذا جوابا ، وأعلم منه خطابا ، أن يقول القائل : من أبصر الجملة وأحكام الجملة ، كان عالما بحميع دين الله ، وحجة في جميع دين الله بصيرا بالولاية والبراءة ، وكان في ذلك صادقا ، ولجميع أهل القبلة موافقا ، في جميع أديانهم ومذابهم وآرائهم .
كذلك قول من قال : من أبصر ما يسع جهله وما لا يسع جهله ، كان عالما بالولاية والبراءة ، لأن الولاية والبراءة كلها راجعة إلى أصل ما يسع جهله ، وأصل ما لا يسع جهله ، كما كانت الولاية والبراءة كلها ولاية وبراءة كافية في المعنى ، أن يقال بما يسع جهله وما لا يسع جهله منها ، وكما كانت الولاية والبراءة وجميع دين الله من الصلاة والزكاة والحج والصيام ، وجميع أحكام الإسلام ، كافيا في المعنى في جميع ذلك الإقرار بالجملة ، فيما يكتفى به ، وكانت الجملة جامعة لجميع دين الله .
كذلك قول القائل :من أبصر من الولاية والبراءة حكم الخاص والعام ، فقد أبصر الولاية والبراءة ، كان بذلك صادقا ،لأنه لا يخرج جميع الأحكام من الخاص والعام في أمر الولاية والبراءة .
كذلك من قال : من أبصر أهل الحقيقة والشريطة والظاهر من الولاية والبراءة فقد أبصر الولاية والبراءة ، وكان ذلك كافيا عن ذكر أصول الولاية والبراءة في حكم الخاص من ذلك .
(3/14)
وأنجز من ذلك جوابا أن يقول : العالم حجة في الفتيا وفي الرفيعة ، ولا يذكر سوى ذلك من تفسير ، فقد قال أهل العلم إن العالم بجميع الأشياء عالم ، وأنه عالم يسمى عالم بذلك الذي هو عالم به ، وقد اكتفى من عقل أنه لم يرد القائل : العالم حجة ، إلا أن هذا العالم عالم بجميع ما يكون به حجة الله في خاص ذلك الأمر، الذي كان فيه حجة ، وفي عام الأمور التي هو فيها حجة ، والكلام في هذا يتسع من الألفاظ الخاصةو العامة.
فصل : فلا يجوز عندنا أن تكون الولاية بالرفية إلا من العلماء بالولاية والبراءة ، ولا يكون العلماء بالولاية والبراءة إلا من علم أحكام أصول الولاية والبراءة ، ووقف على خاص ذللك وعامه ، من جميع أصول الولاية والبراءة ، ثم هنالك يكون حجة في الرفيعة لمن رفع إليه ، وعلى من رفع إليه ، فالحجة للمرفوع إليه الولاية أن يتولى بقول الواحد من علماء المسلمين بأحكام أصول الولاية والبراءة ، والمرفوع إليه ذلك ، فخير إن شاء تولى المرفوع إليه ولايته والرافع ، وان شاء تولى الرافع ، ووقف عن ولاية المرفوع ولايته ، الواحد حجة للمرفوع إليه ، أن يتولى بقوله و ولايته إن شاء ، وليس بحجة فيْ الإجماع عليه أن يتولى بولايته فإذا تولى الاثنان من علماء المسلمين بأصول الولاية والبراءة ، كانا حجة على من رفعا إليه ذلك ، وكان عليه أن يتولى من رفعا إليه ذلك ، وكان عليه أن يتولى من رفعا ولايته ، ولا نعلم في ذلك اختلافا .
فصل : وسواء كان المرفوع ولايته حاضرا أو غائبا ، أوحيا أو ميتا ، متقدما أو مسأخرا ، فذلك كله سواء ، ولم نعلم في ذلك فرقا ولا اختلافا ، حتى يعلم كذب ما قاله الرافعون ، وشهد به الشاهدون من أهل العلم والبصر بالولاية والبراءة .
(3/15)
ولا تجوز الولاية إلا بالبصر للولاية والبراءة ، ولا يتولى الانسان برأيه وبصره حتى يكون بصيرا بالولاية والبراءة ، كما لا يجوز له أن يتولى إلا بولاية من يبصر الولاية والبراءة ، كما أن الحاكم لا يجيز شهادة الشهود إلا أن يكون يبصر العدالة ، أو يسأل المعدلين ، إن لم يكن يبصر العدالة ، ولا يجيز شهادة الشهود وعدلهم إلا ببصر منه ، أو يبصر من يبصر العدالة ، كذلك لا يتولى الانسان ببصره إلا أن يكون ممن يبصر الولاية والبراءة ، ولا فرق في ذلك معنا ، فيمن يتولى برأيه وبصره ، أو يرفع ولاية غيره ويتولى غيره ببصره .
ومن لم يجز أن يتولى ببصره في الرفيعة ، لم يجز أن يعتقد هو الولاية ، إلا بالمعرفة منه التي تجوز لغيره أن يتولى بها من قوله ، أو برفيعة ممن يبصر الولاية والبراءة ، أو بشهرة فضل واستقامة ، وظهور عدل لا شك فيه ، أنه على سبيل الحق والسلامة ممن تقدم أمره أو استأخر ، فهذا سبيل الولاية بالرفيعة معنا من أحكام الظاهر في الولاية .
وإذا رفع العالم من العلماء بالولاية والبراءة ، ولاية رجل أو امرأة باسمه وعينه أو بصفته ، بما يستدل عليه كان ذلك حجة لمن تولاه بقوله ، من عالم من علماء المسلمين ، أو ضعيف من ضعفاء المسلمين ، والولاية بالرفيعة ممن هو حجة للرفيعة ، جائزة للعالم والضعيف ، وحجة للعالم والضعيف ، ما لم يعلم العالم أو الضعيف كذب ما قال الرافع ، في ولايته أو باطله ، إدا كان العالم بأصول الولاية والبراءة ، من أهل الاستقامة من المسلمين في حكم الظاهر ، وليس على الناس علم ما غاب عنهم من أحكام السرائر .
(3/16)
فصل : وكذلك إذا رفع اثنان ، من علماء المسلمين بالولاية والبراءة ، ولاية رجل أو امرأة على هذا السبيل ، كانا حجة على من رفعا إليه ولاية ذلك الإنسان ، ولا اختيار له في ذلك ، إذا علم بمنزلة ما يكونان فيه حجة من الفضل والعلم والاستقامة ، ولو لم يعلم أنهما حجة إذا جهل الحجة بمعرفة الحجة ، ومما يكونان به حجة ، لأنه لا يسع جهل الحجة من علم الحجة أو جهل الحجة ، إذا قامت عليه الحجة بمعرفة الحجة ، وبما يكون به حجة ، وأنه نازل بمنزلة الحجة بما يكون به حجة ، ولو جهل هو في علمه منه معرفة لزوم الحجة ، وما يكون حجة ، والولاية بالرفيعة من علماء المسلمين بالواحد جائزة ، وحجة لمن تولى بقوله ، ولا يكون ذلك عليه حجة ينقطع بما عذره وهو مخير ، فإذا قامت عليه الحجة بالاثنين من علماء المسلمين ، كانا حجة عليه ولزمته الحجة ، ولم يكن له أن يجهل الحجة ولا يخالف الححة ، ولا يضيع ما قد لزمه بقيام الحجة ، وكل هذه الولاية بالواحد من العلماء وبالاثنين من العلماء ، إنما هو بقصديق الواحد ، وبالتزام الحجة بالاثنين.
(3/17)
كما قامت الحجة على الحاكم بقبول شهادة الشاهدين في الأحكام ، ولو كانا فيما شهدا عليه من شهادتهما تلك عند الله من الكاذبين ، ولله في دينه من المحاربين ، فعلى الحاكم أن يقبل شهادتهما ويحكم بها لمن شهدا عليه ، وهو بذلك عند الله من السالمين والمسلمين ، ولو كانا هما بشهاتهما تلك عند الله من الظالمين ، وليس للحاكم لان كان عليه قبول شهادتهما والحكم بها أن يشهد على المشهود عليه ، بمثل ما شهد عليه الشاهدان ، ولا يعتقد صدق ما قاله الشاهدان على المشهود عليه ، من الظلم والجحود ، ولا للمشهود له من الصدق ني ادعائه على المدعى عليه ، بل ليس للحاكم من جميع ذلك ، ولا عليه إلا أن يلتزم ها قد لزمه من قبول الشهادة ، والحكم لله بذلك في عباده ، ولا يتعاطى غير ذلك ، فإن تعاطى غير ذلك من الشهادة للشاهدين بالصدق ، والمشهود عليه بحقيقة الكذب والظلم ، كان بذلك الحاكم من الشاهدين بالزور والحاكمين بالجواز ، ولا نعلم في ذلك اختلافا .
فصل : وان رد الحاكم شهادة الحجة من العدول بعد قيامها ، لموضع ما قد غاب عنه ، من صدقها وكذبها ، واحتمل عنده من ذلك بالحق ، كان بذلك للحق من المعطلين ، وكان بذلك عند الله في دينه من المبطلين ، ولو كان الشاهدان عند الله في سريرتهما قد شهدا باطلا وكذبا ، فلا يجوز للحاكم أن يترك الحجة بعد قيامها عليه ، ولا يشهد بمثل ما شهدت به الحجة على المشهود عليه ، ولا يعتقد صدق الشهود ولا حقيقة ذلك ، وإنما تقبل الحجة إذ هي في دين الله حجة .
(3/18)
كذلك على الحاكم أن يقبل تعديل المعدل ، إذا كان يبصر العدالة ، وقت إقامته للتعديل ، وجعله معدلا في أحكامه ، فعليه أن يقبل تعديله ، ولو كان المعدل قد خان الله في سريرته ، يرفع عدالة الخائنين عنده والكاذبين في دين الله ، فعليه أن يقبل ذلك من المعدل ، ما لم يعلم كذب قوله وباطله ، و ليس له أن يشهد له ولا يعتقد تصديق المعدل ، فيما رفع إليه من عدالة الشهود ، ولو كان المعدل في ذلك عند الله من الصادقين ، وكان الحاكم في اعتقاد صدقه في ذلك عند الله من الفاسقين ، وإنما عليه أن يقبل الحجة ، ويرد ما ليس هو بحجة ، إذ هو في دين الله حجة ، وليس حجة إذا لم يكن في دين الله حجة .
فصل : وكذلك الولاية برفيعة الواحد ، إنما هو قبول التصديق ،لا على حقيقة الصدق من الرافعين ، ولا على المرفوع ولايته بالواحد من علماء المسلمين ، والتزام الحجة بالاثنين من علماء المسلمين ، إذا رفعا ذلك وشهدا ، والقيام به من غير أن يشهد بما شهدا به ، ولا يعتقد صدق ما رفعاه أنه كذلك ، ولو كانا عند الله من الصادقين في قولهما ، فليس له أن يشهد بصدقهما ، ولا يعتقد ذلك ، لأن ذلك من التقليد لهما ، ولا يجوز التقليد في الدين .
فصل : وكذلك التصديق للواحد بمنزلة الحجة من الاثنين ، لا يجوز تكذيب الواحد ولا تصديقه ، وإنما يجوز تصديقه على الأمانة ، لما جاء أنه حجة لمن صدقه ، كما كان المعدل حجة لمن صدقه من الحكام في إنفاذ الأحكام لتعديله .
(3/19)
كذلك الولاية بالرفيعة من الواحد ، ولا نعلم أن أحدا قال إن الولاية لا تجوز بالواحد ، وإنما تجوز بالاثنين من علماء المسلمين، ، وإنما قيل بالاختلاف في الحجة بقول الواحد ، أنه حجة في الولاية ، وأنه يلزم تصديقه والولاية بقوله ، لأن الحق في الولاية لله - تبارك وتعالى - ، ولأن ولاية الرفيعة بالواحد تقع موقع الرفيعة من الاثنين ، لأنه إنما هو يقبل قول الرافعين ، ولا يتعدى قول الرافعين ، كما قد كان الحاكم الواحد حجة في دين الله ، إذا كان قد نزل بمنزلة الحاكم ، وكان الحاكم حجة على الرعية بمعونته على ما هو حجة ، وتصديقه فيما هو حجة على غيره ولغيره ، كما جاء الأثر أن المعدل الواحد حجة في رفع العدالة ، إذا كان قد جعل معدلا لذلك الحاكم ، وعليه إذا كان هو الذي جعله معدلا أو جعله له معدلا ، ممن يبصر العدالة من العلماء من المسلمين ، بأمر ذلك الحاكم ، كذلك العالم إذا نزل بمنزلة الحجة في الولاية والبراءة ، كان حجة في رفع الولاية ، كما كان حجة على غيره في الفتيا في دينه ، إذا قال ما هو في أصل دين الله حق ، وموافق لأصل دين الله من قول الحق في الدين ، فهو حجة في ذلك فيما يسع جهله وفيما لا يسع جهله .
كذلك الولاية بالواحد ، وكما كا قول الواحد من الثقاة في الأهلة في شهر رمضان ، وما يلزم في الحقوق في ذلك يقوم الواحد ، ويكون حجة ، كذلك الولاية ، قد قال من قال : إنها تقوم بها الحجة على المرفوع إليه بقول الواحد من علماء المسلمين ، وليس له أن يلوي عنقه عن الحجة ، وعليه أن يتولى المرفوع ولايته بقول الواحد ، للعلل التي دكرناهما ، وأكثر من هذا من العلل فيما تقوم به الححة من حقوق الله بالواحد ، فالولاية أولى أن تقوم بها الحجة بالواحد .
(3/20)
وقد قال من قال : هو مخير في رفع الواحد ، وعليه أن يتولى الرافع من علماء المسلمين ، وليس له ترك ولاية الرافع من علماء المسلمين ، من أجل ولايته لمن تولاه ، وان وقف عنه فيلزمه ولاية الرافع ، فإن لم يتول الرافع من أجل ولايته المرفوع ولايته ، هلك بذلك ، إذا وقف عنه برأي أو بدين من أجل ولايته لمن تولاه ، إلا أن يعلم أنه تولاه بغير حق ، فإن لم يعلم ذلك ثم ترك ولايته من أجل ولايته لهذا ، كان هالكا ، وان وقف عن المرفوع ولايته وتولى الرافع من علماء المسلمين ، فقد أجاز له ذلك من أجاز من المسلمين ، ما لم تقم عليه الحجة بالإثنين ، فإذا قامت عليه الحجة بالإثنين لزمه بذلك الحجة.
وقال من قال : إن سال العالم عن ولاية المرفوع ولايته ، فرفع إليه ولايته ، كان ذلك عليه حجة ، وإن رفع إليه ولايته من غير أن يسأله كان له الخيار في ذلك ، كما كان الحاكم إذا سأل المعدل عن تعديل الشاهد ، فرفع إليه عدالته ، لزمته الحجة بذلك ، وإذا رفع المعدل تعديل الشاهد من غير أن يسأله الحاكم ، كان له الخيار في ذلك وفي قبوله ، كذلك السائل إذا سال العالم عن ولاية المرفوع ولايته ، فرفع إليه ولايته ، كان عليه حجة ، وان لم يساله كان مخيرا في ذلك ، فإن تولاه وسعه ذلك ، ولا نعلم في ذلك اختلافا ، وإن لم يتوله وتولى العالم وسعه ذلك في بعض القول ، ولايسعه ذلك في بعض القول ، إلا أن يتولى المرفوع ولايته إذا سال عنه .
فصل : وقال من قال : هو مخير في ذلك في قول الواحد ، سال العالم أو لم يساله فهو مخير في ذلك ، وليس له على كل حال ترك ولاية العالم المحق من أجل ولايته لمن تولاه ، ساله عن ذلك أو لم يساله ، وعليه ولاية العالم المحق على كل حال .
(3/21)
وقال من قال : لا تقوم عليه الحجة إلا بقول الاثنين من العلماء ، سالهما أو لم يسالهما ، فإذا قام عليه الإثنان من علماء المسلمين بالولاية والبراءة في الرفيعة بولاية رجل أو امرأة بعينه ، كان ذلك عليه حجة ، وكان عليه قبول ذلك كما وصفنا ، من غير اعتقاد صدق ذلك للمرفوع ولايته ، ولا صدق الرافعين لذلك ، ولكن لقبول الحجة ، ولو كان الرافعون للولاية كاذبين في ذلك ، خائنين لله في دينه في ذلك ، فالاثنان حجة على من قاما عليه ، والواحد حجة لمن صدقه في ذلك ، وقبل ذلك منه ، ولا نعلم في ذلك اختلافا في قول أهل العلم .
ولو رفع عالم من علماء المسلمين من البصراء بالولاية والبراءة ولاية من علم الله شقاءه ، وأوجب علم شقائه على من علم ذلك منه في كتاب الله -تبارك وتعالى - ، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزم فيه بعص المسلمين براءة الحقيقة بالقطع ، فرفع هذا العالم ولايته خائنا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه ، إلى من لا يعرف ذلك من المسلمين ، فتولاه بذلك على تصديق الحجة له في ذلك ، وكان المتولي لذلك المرفوع ولايته في ذلك من المسلمين والسالمين ، وكان الرافع لولايته من العلماء من الهالكين والظالمين ، ولا يضر ذلك من صدق الحجة في
(3/22)
وصلناموضع ما يكون حجة ، ولو كانت الحجة كاذبة عند الله في سريرتها ، كذلك لو تولاه اثنان من علماء المسلمين في حكم الظاهر ، العلماء بالولاية والبراءة لكانا حجة على من قاما عليه بذلك في حكم الظاهر ، وكان عليه ولايته وولايتهما على ذلك ، و كان سالما بذلك ، ولو ترك ولاية المحق الواحد العالم لذلك من أجل ولايته لهذا الذي في علم الله أنه ظالم ، ولم يعلم ذلك المرفوع إليه ، كان بذلك عند الله من الهالكين في دينه ، وعذبه الله على ذلك بنار جهنم إذا ترك ما هو عليه حجة لموضع ما ليس له حجة ، ولو كان هذا العالم قد تولاه ورفع ولاية أبي جهل عمرو بن هشام أو نمرود بن كنعان أو فرعون وقارون وهامان ، ولا نعلم المسلم المرفوع إليه ولايتهم ، ما هم وما منزلتهم في الأحكام عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل دينه كان بولايتهم بالرفيعة سالما ، وكان بترك ولاية المحق العالم ، من أجل ولايتهم بغير علم ظالما لأنه لا يجوز له أن يترك ما ألزمه الله من ولاية المحق العالم من أجل ولايته لجميع من تولاه باسمه وعينه ، إلا أن يعلم أنه تولى أحدا بغير الحق ، والا فهو لازم له ولاية المحق العالم .
(3/23)
وكذلك إدا قام عليه الاثنان بولاية أحد من هؤلاء وأمثالهم أو غيرهم ، من لم تصح شقوته في الكتاب ، إلا أنه قد استحق العداوة مع أحد من المسلمين في الدين في حكم الظاهر ، من الأئمة أو في الأئمة ، ممن لم يصح مع هذا المرفوع إليه ولايته ، ما قد نزل به من منزلة الضلال والكفر والشقاء في حكم الحقيقة ، ولا الكفر في حكم الظاهر ، فعليه أن يلتزم ولاية العالمين ، وولاية المرفوع ولايته بحكم التصديق ، وقبول الحجة ، فإن ترك ولاية المحقين العالمين وترك ما يلزمه من التزام الحجة بولاية المرفوع ولايته ، كان بذلك من الهالكين ، ولا يساله الله عن ولاية أبي جهل عمرو بن هشام ولا نمرود بن كنعان ، ولا قارون وفرعون وهامان ، إذا لم يعلم كذب ما قاله العالمان .
ولا حقيقة ما نطق به القرآن في هؤلاء الذين صح شصاؤهم في القرآن ، ولا شهد بصدق ما قاله العالمان ، وإنما التزم ولاية من لزمته ولايته بالحجة بقول العالمين ، إذا كان العالمان حجة في حكم دين الله في الله ، ولو شهد بصدق ما قالاه ، وكان ممن رفعا ولايته ذا القرنين وامرأة فوعون ومريم ابنة عمران ، وموسى بن عمران وعيسى ابن مريم -صلوات الله على أنبيائه - ، ولم يعلم صدق ما قالاه إلا من طريق قولهما ، فشهد بصدق قولهما ، وقد وافقا في ذلك تصديق القرآن ، وولاية من ثبتت ولايته في القرآن ، لكان بذلك من الهالكين ، إذ شهد بغير علم وقال بغير علم ، ولو ترك ولاية فرعون وهامان ونمرود بن كنعان وأبي جهل عمرو بن هشام لموضع ، إذ غاب عنه صدق العالمين من كذبهما ، ولم يأمن أن يكونا قد قالا ورفعا مما هما فيه كاذبان ، لكان بذلك قد ترك ما يجب عليه ، وترك الحجة في الدين ، وكان بذلك من الهالكين .
(3/24)
كذلك لو رفع العالم من علماء المسلمين ، البصر بأصول الولاية والبراءة ، ولاية أحد من المحدثين الذين قد صح حدثهم مع أحد من المسلمين ، وصح مع أحد من المسلمين خلافه في الدين من الأئمة السالفين ، مثل نافع بن الأزرق ونجدة وعطية ، وأئمة الخوارج الفاسقين المبتدعين ، فرفع أحد من علماء المسلمين ولاية أحد من هؤلاء خائنا لله في دينه إلى من لا يعرف ذلك منهم ، ولا نعلم أن الرافع خائنا لله في دينه فتولاهم المرفوع إليه ولايتهم ، كان لله بذلك سالما في الدين ، أو لم يكن له أن يشهد بصدق ما قاله الرافع من علماء المسلمين ، ولكن بصدق الحجة في الدين ، ولوكانت الحجة في دين الله من الخائنين.
كذلك لو رفع ولاية أحد من هؤلاء اثنان من علماء المسلمين العلماء بأصو ل الولاية والبراءة ، ولم نعلم من رفعوا ذلك إليه كذب ما قالوه من صدقهم ، كان عليه ولاية المرفوع ولايته ، وكانا عليه حجة وله حجة ،
ولا يجوز له أن يشهد بما شهدت به الحجة ولا يشهد بصدق الحجة ، ولا يرد الحجة ، ولا يضيع ماقامت به عليه الحجة ، وما لزمه من الولاية بقيام الحجة.
(3/25)
فصل : كذلك لو رفعا ولاية عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبدالله ، والزبير بن العوام ، ومعاوية بن أبي سفيان ، والقول في ذلك واحد ، والأمر في ذلك واحد ، من الواحد والاثنين والتصديق والشهادة ، وقبول الحجة ولزوم الحجة ممن هي لازمة منه وفيه ، ولا يختلف القول في هذا ولا الحكم فيه ، والمرفوع إليه الولاية ، مخير في قول الواحد ، ويلزمه قبول قول الاثنين من علماء المسلمين البصراء بالولاية والبراءة ، والحجة له في ذلك وعليه ما ظهر من الرافعين ، وعلمهم في حكم الدين ولو كانوا عند الله في أحكام السريرة من الكاذبين ، ولله في دينه من الخائنين ، وعليه وله أن يتولى بالحجة جميع من رفع إليه ولايته ، وقامت عليه الحجة بولايته ، ولو كان الرافع إليه في سريرته زنديقا خائنا لله ، بغير أن يظهر منه في ظاهر الأمر عنده ، ما يكون حجة به في حكم الظاهر من العلم والاستقامة ، ولو كان المرفوع ولايته أيضا من الزنادقة وعبدة الأوثان والأصنام والنيران ، وهو لا يعلم ذلك ولا يدري ما هو ، فإن الحجة له في قبول الولاية في هذا ، والحجة عليه في قبول ذلك من ال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *