الخطاب الإسلامي والعودة إلى الوسطية - مكتبة أهل الحق والإستقامة

أحدث المشاركات

Post Top Ad

Post Top Ad

الثلاثاء، 20 أبريل 2021

الخطاب الإسلامي والعودة إلى الوسطية

 الخطاب الإسلامي والعودة إلى الوسطية



الخطاب الإسلامي والعودة إلى الوسطية

الدورة الخامسة عشر


مسقط ( سلطنة عمان(


إعداد

آية الله محمد علي التسخيري

الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية


الجمهورية الإسلامية الإيرانية



بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمد سيد المرسلين وآله الطيبين وصحبه الكرام وبعد فإنا لا نعني بالخطاب الإسلامي هنا بالخطاب التعليمي السطحي او المعمق، كما لا نقصد به الخطاب الأدبي والبلاغي، وإنما نريد به الخطاب الإعلامي الذي يلامس حس الجماهير، ويوجه الرأي العام.ولسنا بحاجة -كما نعتقد- للدخول في عملية تفلسف الخطاب وتحدد له تعاريفه وأقسامه وعناصره وضوابطه فذلك أمر يكاد يتضح ببداهة لدى المفكرين. ومقاصد الشريعة واضحة فيه وتتلخص في كونه يوصل الحقيقة للآخرين أو فلنعبر عنها عملية إيصال الحقيقة من فبل الشاهدين عليها إلى الغائبين منها :كما قال ) صلى الله عليه وسلم) (( ليبلغ الشاهد الغائب ).



وللإسلام أسلوبه الرائع في الدفع تحو الحوار البناء والواعي والمنطق بشكل يعد نظرية متكاملة وسباقة في تاريخ الفكر الإسلامي. ولكننا نشعر بأدواء يبتلى بها الخطاب الإعلامي الإسلامي بشكل فضيع في عصرنا الحاضر مما يقعده عن تحقيق مقاصده. ولعلنا نستطيع جمعها تحت عنوان ((التطرف المرفوض)) والابتعاد عن (( العقلانية) ) و ((الوسطية) ) و ((التوازن(.

ولسنا بحاجة للحديث عن مدى التزام الإسلام بهذه الأمور فهي ظواهر واضحة في تشريعاته وضوحها في مفاهيمه وأخلاقياته.


ومن الجدير ذكره أننا لا نريد بالخطاب الإعلامي ذلك الخطاب المتداول والمتدني أحيانا إلى مستوى الاهتمام بالقضايا الجزئية والعادية وربما العامية بل ما نركز عليه هو أعلام المفكرين الإسلاميين الذي يخاطب عقول الأمة وثقافتها ونهج حياتها ويحدد موقعها الحضاري البشري.


فمحاولتنا هي نقد ذاتي لحركة المفكرين الإعلاميين ودعوة إلى تحقيق الوسطية :


بين السطحية والتعميق التعقيدي.


وبين الاتجاه المتسرع المتهور والنفس التغييري الطويل


وبين التخصص وعدم الاحتكار


وبين الانغلاق والتأثر المفرط


وبين التعصب و التنازل المبدئي


وبين الرجعية والتقدمية المزيفة


وبين الإفراط في التقييم واللامبالا ة


وكلها نماذج غير حاصرة لأدوائنا في الخطاب.



النقد الذاتي لحركة المفكرين الإسلاميين اليوم تختلف النفوس والآفاق من حيث الموضوعية والسعة إلى حد كبير، فبين من لا يأبه لأي نقد شخصي مهما كان حادا عنيفا، وبين من تجرحه كلمات ناقدة مهما كانت موضوعية بناءة.إلا أن نقد الحركة والاتجاه الفكري أمر طبيعي، وكثيرا ما يدعو الأفراد للتأمل وإعادة النظر دون أن يصحب ذلك تأجج حماسي بليد، أو عاطفة جريحة ضارية تسد السبل على التفكير الهادي.. وتلك هي سنة الغضب الطافح عن حده.وما نحاوله هنا تحريك حسن النقد الذاتي لمسيرة الفكر الإسلامي السائد اليوم في عالمنا الإسلامي المعاصر، والذي يطالعنا بشكل كتاب،، أو مقال، أو محاضرة تطرح منفردة أو تنظيم إلى مجموعة نطلق عليها عنوان ندوة أو مؤتمر فكري.


على أن منهجنا في هذا الحديث لا يتوجه بالاتهام الصريح إلى الرموز الفكرية التي تطالعنا أسماؤها في هذه الصحيفة الإسلامية أو تلك، وإنما يطرح بعض الأمراض والنقائص التي لا يشك احد ماهيتها المرضية، ثم يترك للمفكرين نفسه أن يتجرد من دوافعه الذاتية -والمفروض انه يعمل مخلصا في سبيل إعلاء كلمة الله- فينظر هل تمسه لفحة من هذا اللهيب، أو تدنس ثوبه لوثة من هذا القتام؟


وقبل أن نطرح بعض هذه الأنماط المرضية نسارع للتركيز على حقيقتين موضوعيتين هما:



الأولى : وجود بعض المفكرين الواعين الذين منحهم الله تعالى القدرة على التحليق الفكري المجرد، والإخلاص له -جل شأنه- الأمر الذي جنبهم الوقوع في المزالق ، وجعلهم مهبط الهداية الإلهية.


الثانية : توقع التغير الشامل للحركة الفكرية الإسلامية، وانسجامها بالتالي مع التغير الشامل يسري كالعافية الإلهية إلى أوصال عالمنا الإسلامي الكبير..


 


فنحن إذن إلى التكافؤ أقرب منها إلى التشاؤم.. بل إننا لنجدنا نأمل أملا قريبا في طلوع إسلامي فكري مشرق، يغمر الأرض نورا بحوله تعالى وقوته.أما وقد ركزنا على هاتين الحقيقتين، نود أن نستعرض - بما يتناسب وحجم هذا المقال- بعض نقاط الضعف، والحالات المرضية التي قد يبتلى بها الفكر، أو فلنقل يبتلى بها المفكرون.



وأولها - بكل صراحة - (التبعية المكممة للأفواه) والتي غالبا ما تتشخص بشكل تبعية لذوي النفوذ وهذه التبعية المقيتة قد تفرضها ظروف الطرف المسيطر، كما قد يلجئ إليها الضعف النفسي للمفكر، وحاجته الاقتصادية أو النفسية إلى مثل هذه التبعية.


ويمكننا أن نفترض لهذه التبعية من آثار السوء الشيء الكثير، فقد تبدأ بعنصر المجاملة، وعم التعرض لما يغضب، وتنتهي إلى عملية التزييف المتعمد بعد أن تمتلئ البطون من الحرام، وتنتفخ الأوداج من دماء المقهورين. وبين تلك البداية وهذه النهاية يمكن تصنيف الكثير الكثير مما يكتب أو يلقى في عالمنا الإسلامي وباسم الإسلام، والتربية، والتوعية!!


فهل فكر بهذا الأمر أولئك الذين باعوا أثمن جوهرة في الحياة وهي ( الحياة المعقولة) للصغار التافهين، فراحوا يمتدحون جاهلا لا يعقل ما ينطق ولا يملك من مسوغات الوجود المسيطر.



نعم، لنتائج التبعية درجات، فمنها ما لا يتجاوز إلا عن ذكر ما يغضب ، والاقتصار على التوعية البعيدة عن تحريك أبناء الأمة ضد الظلم، في حين نجد المظاهر الأخرى تصل إلى حد التسويغ لما يفعله هؤلاء المسيطرون حتى ولو كان قد بلغ من الوضوح ما لم تبلغه الجريمة نفسها.



والعينة المرضية الأخرى -على الصعيد الفكري- هذا (التكرار المض للفكر دونما إبداع وابتكار) لا في مجال الموضوع ولا على صعيد الحلول، والاستنباط .. وانه لما يملأ القلب ألما ألا نجد من يرفع الخطوة التالية لخطوة رفعها مفكر كبير هو المرحوم آية اللّه الشهيد الصدر في المجال الاقتصادي وذلك على الرغم من مرور نصف قرن على هذه التجربة من جهة، والحاجة الماسة إلى مثل هذه الخطى الفكرية الكبرى من جهة أخرى.


 


وأمامنا الساحة الفكرية، فلنسر فيها، ولنبصر هذه المظاهر، ونعمل بالتالي على إدانتها بأي شكل كانت.أما نقطة الضعف الأخرى والتي تبدوا للعيان فهي مسألة (عدم التعامل مع الواقع القائم) و (الابتعاد- إلا لماما- عن المشاكل الواقعية للأمة) ولعوامل كثيرة منها ما سلف من عدم التعرض لما يغضب ذوي النفوذ ومنها عدم الإحساس يألم الجماهير بعد تمام عملية التخدير وغير ذلك.


وإلاّ فكم هي الكتابات التي نشهدها عن الأرضية المناسبة لتطبيق الإسلام كله في إطار وحدة إسلامية شاملة تتناسي الحدود والمصالح الضيقة؟ وهل تتوفر الدراسات الكافية للمبادئ المنحرفة التي تسود عالمنا الإسلامي كالقومية الضيقة ، والماركسية ، والأفكار الرأسمالية والعلمانية والهرمنوطيقيا والعولمة وغير ذلك، مع إنها مشاكل يعاني منها جسم الأمة وفكر شبابها الناهض.


واستطرادا في هذا المجال نجد ( الفراغ الهائل في الدراسات الجامعية الإسلامية) فأين هي المناهج التي تشبع هذا النهم؟ وهل استطعنا العمل على تلبية هذا الشوق الجامعي المتطلع للإسلام وهو واقع قائم لاشك فيه، فماذا نحن في قباله فاعلون؟


وحتى التجارب التي طرحت لأسلمة الجامعات جاءت ناقصة مبتلاة بالبوزوتية بالاثباتية


المستوردة دون ملاحظة عدم انسجامها مع واقعنا الإسلامي.


وإذا أردنا أن نستمر في عرضنا لنقاط الضعف فإننا سنجد أمامنا قائمة طويلة ملأي بها وكلها مما لا يمكن غفرانه. إننا سنجد أمامنا مثلا: ضعف العرض وقلة التجديد في ذلك، وإهمال مسألة الإثارة الحماسية القائمة على أساس الفكر الأصيل، وهي جانب قرآني أهملناه في بحوثنا، وغير ذلك كثير.


ونعود فنكرر ما قلناه آنفا من أن هذا الآفاق قد تكون غير عامة ولكنها – على أي حال- تمتلك موقعها في وجودنا الفكري، الأمر الذي يتطلب نقدا ذاتيا موضوعيا يقوم به كل فرد، وكل مجموعة، مستهدفين القيام بالواجب الإلهي التاريخي ، عاملين على المواكبة -على الأقل- لمسيرة تطلعات الأمة، والتي تطوي المسافات الطويلة لتقع على الهدف الكبير حيث يكون الدين كله للّه، وفي الأرض كل الأرض بعونه تعالى، واللّه على كل شيء قدير.


 


الفكر الإسلامي بين السطحية غير المبالية والتعمق غير الطبيعي :



ولكي نتجنب التعقيد في حديثنا علينا أن نوضح اصطلاحي (السطحية اللامبالية ) و (التعمق اللاطبيعي) إلى الحد الممكن.


فالاصطلاح الأول، يعني محاولة أخذ الأمور بظواهرها، وعرضها على الفهم العرفي العادي، والتغاضي عن كل تساؤل يطرح حولها ويتطلب غورا في أعماق النفس الإنسانية أو التعقيدات الاجتماعية لتتسنى الإجابة عنها.


أما الثاني، فيكاد يكون على العكس من الأول، إذ يعني التأمل الدقيق في كل حركة وسكنة ، والعمل على فلسفتها، والانطلاق ولو بمناسبة خفية جدا، إلى آفاق قد لا تكون قد خطرت في ذهن من طرحوا تلك الأمور، أو قالوا تلك الأقوال.


وإذا كان الاتجاه الأول يستبطن بساطة في النظرة في النظرة، واستهانة بالمشكلة، وتصغيرا للفكرة، وفصلا لها عن مبانيها وأسسها الحقيقية، فإنا الاتجاه الثاني يتضمن بدوره إغراقا لا مسوغ له أحيانا، وخصوصا في المجال الإعلامي لا العلمي وتصورا مغلوطا للفهم العرفي، على أساس أنه فهم لمجتمع يكونه الفلاسفة والعقلاء الألمعيون قاطبة ، وتحميلا للفظ أو المشكل بما لا مسوغ له.


والمستعرض لأساليب البحث في شتى أنماط الفكر الإسلامي ومدارسه اليوم، يجده في كثير من الحالات قلقا بين المنهجين آنفي الذكر، الأمر الذي يبعده نوعا ما عن الحقيقة، وبالتالي يفقده القدرة على توجيه أبنا الأمة الوجهة الصحيحة، وإيجاد الوعي الجماهيري المطلوب كمقدمة لنهضة هذه الأمة، وتحقيق آمالها العريضة، وبهذا يعود فكرا حكرا على المتفلسفين والعلماء، أو مبتذلا سطحيا لا يأبه به من له إلمام بالثقافة الإسلامية والعلوم الإنسانية.


 


وإذا تأملنا في طبيعة الأفكار الإسلامية، والمنهج الذي يتعامل به التصور الإسلامي مع المشاكل الإنسانية، وجدناه منهجا متوازنا مرنا يسير مع الفهم الفطري العرفي من جهة، حتى ليتصور الإنسان القرآن الكريم كتابا يقرؤه كل الناس، ويفهمه كل الناس، وتتعامل معه مختلف الفئات على اختلاف مستوياتها، ولكنه – في الوقت نفسه- يتسامى في معانيه، ويبلغ شأوا بعيدا من العمق، حتى لتحار في إدراكها أعظم العقول.. وربما أراد القرآن الكريم أن يعبر عن معاني ضخمة في عالم الغيب ويوصلها إلى الأفهام فيجدها -أي الافهام- قاصرة عن الاستيعاب المباشر، ولذا فهو يعمد إلى التشبيه، ولكن لما كان التشبيه عاملا ايجابيا في تقريب المعنى، وعاملا سلبيا لما قد يؤدي إليه من إيجاد تطابق بين المشبه والمشبه به، فإن الآيات الشريفة تطرح فكرة إرجاع المتشابهات إلى الآيات المحكمات التي لا تتخللها دلالة ظنية لكي يتم لعملية التشبيه أن تحقق دورها التقريبي دون أن يصاحب ذلك أي تصور منحرف.. وربما كان هذا بعض أهم التحليلات لفكرة وجود (المحكم والمتشابهة ) في القرآن الكريم. هكذا إذا يتسم التعبير الإسلامي والمنهج الإسلامي في التعامل الفكري بصفة التوازن بين الوضوح والعمق، فهل وعى الفكر الإسلامي هذه الحقيقة؟


 


إن على الفكر الإسلامي أن يتصور تماما: أن التصور الإسلامي تصور جامع يربط بين كل أجزء الكون في عملية متناسقة لتحقيق هدف واحد، ويربط بين كل مكونات الفطرة الإنسانية في ثكل متسق لتحقيق هدف الخلقة الإنسانية ، ويربط بين كل بين كل مكونات التشريع الإسلامي في وحدة رائعة لتحقيق الهداية التشريعية للإنسان. ومن هنا فلا يمكن أن نتعامل مع المشاكل الإنسانية المطروحة ببساطة التلميذ، وسذاجة البدوي، وسطحية التعامل البسيط، فنتصور هؤلاء جميعا أهلا للتعامل المباشر مع النصوص الإسلامية للوصول إلى واقع التصور الإسلامي عن الكون، والحياة، والتاريخ، والإنسانية ، وأحكامها التشريعية، نعم، لا يمكننا أن نمر على مشاكل كبرى كمشكلة (الجبرية) و ( الإرجاء) و (المعاد الجسماني) و (العدل الإلهي) و (الصفات الإلهية) و (النظام السياسي) وأمثالها من آلاف المشاكل التي تطرح وتتطلب الحلول والموقف الصحيحة، لا يمكننا أن نمر عليها مرور الكرام، وأن نتعامل معها بسطحية لا مبالية، وكأننا أمام مسألة رياضية بسيطة، ثم نسخر من كل أولئك الذين أضاعوا أعمارهم في التماس الحلول ووضع التصورات المعقدة لها.إن هذا في الواقع يعني انفصالا عن الحقائق الكبرى ويعني استهانة غير طبيعية بالفكر الإسلامي الأصيل. بل وربما راح ينفي أصل التأمل والتدبر، وهما من أول ما يأمر به الإسلام.



إلا أننا نلاحظ في الطرف المقابل اتجاها مضادا يعمل على إدخال المفاهيم الإسلامية الواضحة في قوالب فلسفية معقدة تحول الثقافة الإسلامية إلى الثقافة الفلاسفة،و المجتمع الإسلامي إلى مجتمع العباقرة، متناسية الواقع القائم، والوضوح الفطري في الأفكار، وأن الإسلام يراد له أن يستقر في وعي الجماهير ليصوغ لها حياتها كلها، ويسير بها نحو الكمال.


 


ولن نحاول هنا أن نضرب الأمثلة على هذا الاتجاه، فهو واضح لمن يتأمل في أنماط من التفسير العلمي المغرق للحقائق القرآنية والتي تجعل القرآن كتابا لتعليم العلوم الطبيعية، وفي أنماط من التفسير العرفاني المغرق والتي تحوله إلى كتاب لتأمل العرفاء لا غير، وفي أنماط من التفسير الفلسفي المغرق إلى الحد الذي يظهر فيه ككتاب مؤلف من رموز فلسفية لا تفهم إلا بعد عمر طويل.


وخلاصة ما نريد تحقيقه من هذا الحديث، أننا ندعو إلى تحقيق التوازن الذي تركزه كلمتا (البيان والحكمة) فلا نغرق في التعامل مع الظاهر متناسين أن الظاهر لا يتحملها.


وليس حديثنا هذا مقتصرا على تفسير الآيات أو شرح الأحاديث، وإنما يعم كل تعامل فكري مع المشاكل والتساؤلات المطروحة، فأن الملاك واحد في كل هذه الأمور، والمنهج واحد في شتى أنماط التعامل الفكري الإسلامي.


فإذا ركزنا على النظام السياسي الإسلامي -مثلا- وجدنا إن الاكتفاء ببعض التعبيرات العامة، كالشورى والعدالة، واعتبارها كل المضمون السياسي، يعد أمرا سطحيا بلا ريب بعد معرفتنا بمشاكل الحكم ودوره الأساس في الحياة، في حين إننا إذا رحنا نتطلب من النصوص الإسلامية أن تعطينا تصورا مباشرا لموقف الإسلام المحدد من جميع التعقيدات والتفصيلات الدقيقة في التشكيلة السياسية الحاضرة ، وتشرحها بالتفصيل، فإنا نكون قد حملنا النصوص مالا تتحمل، فقد تكون هذه التعقيدات في حلولها موكلة إلى خبرة ولي الأمر وما يراه عبر الشورى من مصالح.


 


والحقيقة، إننا نجد الخطين الآنفين يتجليان في مجال البحوث العقائدية بشكل واضح، وخصوصا مسألة ة (الصفات الإلهية) وأمثالها، الأمر الذي يجر إلى إفراط وتفريط، وكلاهما مضر بالصورة الإسلامية النظيفة التي يراد توعية الأمة بها. الثورية بلا إيمان سراب وهذا الحديث نوجهه إلى كل من يخفق قلبه بالثورة، ويتلظى بنار الظلم والكبت، ويعمل لمقارعة الاحتلال والطغيان. وكل ما نرجوه أن يفكروا في خلق السماوات والأرض وفي خلق أنفسهم وفي هدفهم الحياتي المتعالي عسى أن نكون قد ساهمنا في طرح قضية إنسانية مهمة على صعيد الفكر (الأيديولوجي)) والعلمي).


ولسنا في هذا نخاطب الأفراد فقط -وان كانوا معنيين بكل دقة- وإنما نركز على تلك النظم والحركات والجبهات التي نعتقد أن هناك الكثير الكثير منها ممن هو صادق في طلبه للحياة الأفضل ومن هو مخلصة مع إحساسه بالظلم والكبت والجبروت ولزوم الثورة عليها.


 


ماذا تعني الثورية؟



الثورية ليست منهجا محضا كما يتصور بعضهم، ولذا يطلقون على كل عمل (يتسم بالعنف، ويخرق القوانين المتداولة، ولا يبالي بكل العواقب) صفة الثورية، ويضنون أنها ما هي إلا عمل أهوج يقوم به حاطب ليل، كما أنها ليست هدفا متعاليا محضا كما يتصور الآخرون، فيرون كل فرد استطاع أن يقدم أهدافا لامعة فيها بريق الحرية والعدالة والمساواة، ويعد البشرية بمستقبل أفضل ، هذا الفرد المنضر هو رجل الثورة، دون نظر إلى مدى وضعه وتنفيذه للخطة التي تسير به نحو تلك الأهداف. وإنما الذي نتصوره من خلال القراءة والفعل الوجداني للثورية هو: أن (الثورية) هدف ونظرية متعالية من جهة، وأسلوب تغييري جامع لتحقيق ذلك الهدف والنظرية السامية، من جهة أخرى. ونحن وأن كنا نفضل استعمال مصطلح المنهج التغيري فقد جارينا الشائع في الاستعمال. وصدق من قال : إن العامل بلا هدف هو حاطب ليل ، وإن الهادف بلا عمل طوبائي حالم.


والثورية بمعنى التغيير المحوري -كما يبدوا من التأمل في التعبير السابق- ليست بلا ضوابط أو حركة ضد الضوابط ...كلا، وإنما نعتقد أن الثورية هي المجال الأهم لعمل هذه الضوابط، فما هي إذن؟



إن ما نتصوره من ضوابط يمكن أن تلخص فيما يلي :


 


أولا: على صعيد الهدف النظري يجب أن تتوفر العناصر التالية :


 


أ: الفطرية.


ب: الشمول.



ثانيا: على صعيد العمل يجب تحقيق العناصر التالية:


أ: التغير المحوري.


ب: الشمول والتنسيق.


ج: الواقعية


د: العلو على الواقع.


 


ولمزيد من التوضيح نقول:


إن الهدف يجب أن يكون إنسانيا بلا ريب، وإنسانية الإنسان تحددها شخصيته الإنسانية العامة التي يشترك بها أفراده جميعا والتي بها يميز بها العمل الإنساني عن غيره، وهي المعيار في تقديمه الفرد أو الفكرة ورجعيته أو رجعيتها. فما هي هذه الشخصية العامة ؟ أنها لا تعدو ما تعبر عنه النصوص الإسلامية بالفطرة ، أي ما فطر عليه الإنسان وعجنت به طينته بما يميزه عن باقي الموجودات، ومهما حاولت النظريات المشوهة، ومهما أنكر المنكرون وبالرغم من كل تلك التصورات التي تنتهي بالإنسان إلى شخصية حيوانية صرفة لا يتميز بها عن غيره، فإنها تبقى يلفضها الوجدان الإنساني. والحقيقة الناصعة المتجلية للفرد العادي فضلا عن المفكر هي أن للإنسان شخصية متميزة عن غيره أهلته لصنع الحضارة والتطور، في حين بقيت مجتمعات الحيوانات (إذا صحت تسميتها بذلك) كما هي منذ ظهرت لحد اليوم ونحن مطمئنون لبقائها كذلك (ولا يعني هذا نسيان التغيرات الطفيفة والعضوية في تشكيلها وبنيتها(


ومن هنا فإنا أي رفض للفطرة يعني رفض الوجدان الإنساني، وكل تعارض مع الوضوح والوجدان مصيره إلى الزوال والرفض لا محالة.



فإذا عدنا إلى الفطرة وجدنا أن الذي يؤمن بها ينحصر في أطار التصور الديني ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنسجم (المادية) و ( الإيمان بالفطرة). وهذه أمامنا كل النظريات المادية فلنستقرئها وحينئذ سنجد أنها تنكر الفطرة لا لشيء إلا لأنها جعلت المعايير المادية هي الحكم الوحيد على الفكرة، والفطرة ليست مما يقاس بالمعايير المادية.إن الفطرة بما تحمله من معالم عقلية، وعملية، وخلقية، ودوافع أصيلة وإمكانات تركيبية هي الجو الطبيعي الذي يمكن أن يعرف فيه مدى صحة أية رواية أو تصور أو بطلانه، ومدى تقدمية أي فكرة ورجعيتها، وأنى تسير مسيرة نحو التكامل، وبالتالي مدى ثوريته أي فكرة أو عمل.


 


هذا عن الفطرية، فماذا عن الشمول ؟ الحقيقة هي أننا نعني به كونه هدف ناظرا لمستقبل الإنسانية جمعا وعاملا على تحقيقه كأفضل ما يكون، متناسيا كل مصلحية ضيقة، أو امتداد عرقي ضيق، أو تعلق جغرافي وهمي، أو ارتباط زمني اعتباري، ذلك أن الوجدان والفطرة يشهدان بوحدة المستقبل، ويدفعان لتحقيق هذه الوحدة ويحملان الإنسان مسؤولية العمل لها. وهذا الإحساس الوجداني هو اندفاعه نحو العدالة ونفوره من الظلم، وعطفه على الآخرين، وهو سر إطلاقنا العفو على كل عمل يخدم المجموعة صفة (الإنسانية).(فالشمول) إذا معلول (للفطرية) وليس ندا لها. أما (العمل) الثوري فأنه لن يكون صادقا مع ذاته وصفته إلا إذا ركز على محور البناء الاجتماعي واستهدف تغييره، وهذا يعني الإيمان بالترابط البنيوي للمجتمع ، وأن هناك جوانب يترك تغييرها أكبر الأثر على الجوانب الأخرى، كأن نقول: إن نوعية التغيير السياسي تنعكس كأشد ما تكون تأثيرا على الجوانب الاجتماعية الأخرى، كما يعني أن العمل الثوري يوجه الخطى كلها نحو هذه النقطة ويعمل عبر هذا الإيحاء المركز، وحتى لو أنه أقدم على إصلاح في جانب من الجوانب القائمة على محور فاسد فانه يقدم على ذلك بهدف تغير المحور المذكور، وهذا ما كنا نقصده من الشمول والتنسيق.



أما الواقعية : فنعني بها ملاحظة الواقع وعدم الغرق في طروحات طوبائية لا تأخذ الواقع الفطري الإنساني الأصيل، والحاجات الإنسانية الصادقة والإشباع المتناسب العادل لتلك الحاجات، وكذلك الظروف الزمانية الطارئة للمجتمع مادة التغيير.



أما الصفة الأخيرة التي اشترطناها في العمل، وهي العلو على الواقع، فهي لازمة من لوازم التغيير، وألا فإذا كان الإنسان أسير تصوره التجريبي الانعكاسي الذهني بحيث لا تنعكس في ذهنه إلا إيحاءات الواقع الذي يعيش فيه، ولا يجول إلا بين هذه الإيحاءات، بل وربما يمنح هذه الإيحاءات صفة الثبوت والجمود والإطلاق، فإنه حينئذ لن يستطيع أن يبصر حالة وتركيبا أسمى حتى يعمل على تحطيم هذا التصميم القائم لتحقيق الأسمى المذكور.


ومن هنا فان الإنسان هو الذي يعلو على واقعه ويعمل على النظر إليه من عل ومقارنته مع الصورة الإيديولوج ية التي يملكها كقاعدة لمجموع الحياة ، وبالتالي على تحطيم الجوانب غير المنسجمة وتغيرها إلى الصورة والجوانب المثلى. وبدون هذا العلو قد يستطيع الإنسان أن يحطم واقعا لهدف السيطرة عليه، إلا أنه سوف يكون كما قلنا حاطب ليل حتى في أسلوب عمله.


 


دور الإيمان بالله في تحقيق هذا العنصر



وبغض النظر عن الأساس الفطري التي يملكا الإيمان والدوافع الواقعية للمعرفة الإلهية، وما تفرضه الفطرة من لزوم التعرف على المنعم والمولى الحقيقي، والقيام بحق العبودية له، بغض النظر عن كل ذلك فإن الإيمان بالله تعالى يوفر للإنسان كل العناصر الثورية ، سواء على صعيد الفكر أم على صعيد العمل، ذلك أن الإنسان المؤمن على يقين من وجود خط طبيعي إنساني تقود الفطرة الإنسانية فيه نحو مراحله المتعالية، ومطمئن بأن المطلق الذي يرتبط به ليس مطلقا وهميا صاغه قصوره الذهني ووضعه الاجتماعي ليكون هذا المطلق الوهمي يوما ما قيدا على تطوره الحضاري، بل إنه المطلق الحق المستجمع لكل صفات الكمال، وحينئذ فإن المسير إليه متواصل ، بل كلما تم القرب منه تعالى ازدادت نعمة الله عليه ، فالخطوة إليه يقابلها ميل من العودة الإلهية على العبد بالرحمة - كما تؤكد ذلك النصوص الكثيرة- فالمسيرة صاعدة مسرعة (...إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه...) (فاطر/10)


ومن الطبيعي أن الاعتقاد بالوحدانية الإلهية وأن الجميع بالنسبة إلى الله تعالى على حد سواء، وإن الخلق يستهدف كله هدفا واحدا ويحمل مسؤولية واحدة، نعم ، من الطبيعي أن يترك هذا على حركة المؤمن أكبر شعور بالشمول الإنساني في الهدف من تحركه.



وبالمستوى نفسه يترك الإيمان بالله أثره على العمل الثوري ليعود المؤمن حركية ثورية واعية في أطار مسيرة يعلم منطلقها ويبصر هدفها ( تماما كعملية السعي الرمزية في فريضة الحج الكبرى) فهو ينطلق أولا من مركز وجوده الفردي (الروح) و(النفس) فيغيرها التغيير الشامل، ثم ينطلق إلى الساحة الاجتماعية لا مغيرا بل يقف في طليعة المتغيرين (...واجعلن ا للمتقين إماما) متجها إلى مركز الباطل ، ضاربا إياه، معيرا الله جمجمته، عالما أن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء من عباده، مطمئنا من حسن النتيجة، فهي إحدى الحسنيين (النصر أو الشهادة)، مقتحما كل العقبات والآلهة الوهمية من المال والولد والمقام، مضحيا بالمصالح الذاتية في سبيل المجتمع والمصالح العامة، شاعرا كل الشعور بالمسؤولية الداخلية (بينه وبين ربه)، منسجما مع توجهه الفطري كل الانسجام الإنسانية دائما وأبدا. بهذا يتحول الإنسان المؤمن إلى ثوري بكل معنى الكلمة: رؤية فطرية واضحة، وشمول في الرؤية يتجاوز الذات الضيقة، وسعي تغييري ذاتي واجتماعي يركز على تصميم المشكلة دون أن يتناسى أطرافها، ويأخذ الواقع بعين الاعتبار بالرغم من علوه عليه وسعيه لتغييره إلى الوضع الأفضل.



أسس الثورية الوهمية أو الناقصة:



والذي نعتقده أن البشرية جرت جرا إلى ثورية مادية دون أن تشعر في اغلب الأحيان بأنها طريق مسدود لا تنقذ صاحبها من سجنها، ذلك أنها من جهة وجدت نفسها -كموجود مكرم- تعيش في أقصى درجات الذل والمهانة والاستعباد والاستغلال ، تنهشها ذئاب تنتمي لفصيلتها، وتشرب دماءها وحوش لا تسمى بشرا فحسب بل تعتبر نفسها مثل الإنسانية السامية، وتنظر للآخرين أناسا عبيدا وهمجا رعاعا ودهماء لا تريد إلا العلف والعفف. نعم وجدت البشرية نفسها كذلك، في حين كانت تستصرخها طاقات الخير والعدل الكامنة في أعماقها وتستحثها نحو النور.



هذه من جهة، ومن جهة أخرى فإن المسؤولين أو القيمين على الشؤون الدينية كانوا قد تحولوا -وخصوصا في أوروبا- إلى حاشية في بلاط السلطان وأداة بيد الملوك والإقطاعيين إلى الحد الذي صرخ فيه أحد الثوار بأن عليه أن يشنق آخر قسيس بأمعاء آخر ملك! وغرقوا في الخرافة، الأمر الذي لم يدع للجماهير فرصة التفكير بالخلاص عن طريق الدين، وهو في الواقع طريق الخلاص الحقيقي.


وهنا كانت الفرصة سانحة لبعض أصحاب الدعوات المادية لطرح دعاواهم والمتاجرة التاريخية بشعارات الثورة والعدالة والإنسانية مما ظن معه المحرومون أن الخلاص يكمن في هذه المادية بل ظن بعضهم أن المادية تعني الخلاص وأن الإيمان يعني الرضوخ للظلم والاستعباد . وكانت الردة العظيمة، وانتفخت الأوداج المادية، وتصورت البشرية أنها ستصل الجنة الشيوعية الموهومة أو الفردوس الرأسمالي الحر الكاذب خلال سنوات.ولكن سرعان ما أنكشف الوميض عن نار لاهبة أحرقت الأخضر واليابس وألفيت قطعان الغرب لاهثة تسعى نحو ملجأ وملاذ.


 


أما الأسس التي طرحتها المادية للحركات التحررية فيمكن أن نجعل من أهمها:


الوطنية الجغرافية، القومية العرقية، المصالح المشتركة، التاريخ، وغير ذلك.



وعلى الرغم من أن أيا من هذه الأسس يمتلك قدرة نسبية على التجميع والتحريك الثوري إلا أنه يبقى بمستوى التحريك العاطفي وربما التحريك التعصبي الوهمي، ذلك:



أ: لأنها لا يمكن أن تشكل أي منبع لتلك النظرية الثورية ذات الروح الفطرية والشمول أو ذلك العمل الثوري بأبعاده المذكورة آنفا وبالتالي فهي تفقد الدوام الثوري المطلوب إذ سرعان ما تتحول إلى حركات شخصية أو مصلحية تستغل لصالح هذا المعسكر المستمر أو ذلك فتنفذ أغراضا إمبريالية ولكن بصيغة ثورية وهذا ما قد ينطبق على الأحزاب القومية ضيقة الأفق -مثلا- في عالمنا الإسلامي.


 


ب: ولأنها لا تملك ما يضمن تحقيق مسيرة حضارية صاعدة ثورية ومتقدمة فهي تربط الإنسان بآلهة وهمية مزيفة جردها الإنسان نفسه من نسبيتها وأضفى عليها صفة الإطلاق وراح يعبدها ويجعلها معيارا لمسيرته وحينئذ فسوف تشكل بلا ريب قيدا على المسيرة بعد أن كانت وليدة ظرف خاص.


كما أنها لا تستطيع أن نحقق عنصر المسؤولية الداخلية وتدفع للتضحية بمصالحه الذاتية في سبيل المصالح العليا وهو شرط القدرة على التغيير الثوري الشامل. وخلاصة الأمر، إنها لا تستطيع أن تمنح الإنسان تغييرا روحيا ضروريا للقيام بدوره الحضاري المطلوب.


ج: على أن هذه الأسس الموهومة كثيرا ما تؤدي إلى التمزيق بدلا من التوحيد والتحشيد ، ذلك لأنها كثيرة المضايق ومتعة المتاهات وكثرة التعري، ومتناقضة ي أحيانا أخرى، خصوصا إذ لاحظنا أساس المصالح المشتركة، فانه بعد التأمل لا يبقى لنا أساس يركن إليه الجميع فيكتلهم للثورة على أنها أهداف وضيعة سرعان ما ينتبه الوجدان والفطرة اليقظان إلى تفاهتها وسخفها، الأمر الذي يدفع الإنسان للتخلي عن تحركه الثوري وربما في منتصف الطريق.



ويشتد هذا التناقض إذا أريد لهذا الأسس أن تصنع جيلا ثوريا في عالمنا الإسلامي بعد ملاحظة تنافيها الواضح مع أسس العقيدة والنظام الإسلامي، الأمر الذي يدع المقاتل الثوري قلقا بين ما يؤمن به بشكل أولي، وما عليه أن يفعله وهو ينتمي إلى هذه الحركة غير إسلامية.


 


ومن هنا نفسر ما جاء في البيان الصادر عن المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث العراقي المنعقد في بغداد في حزيران1982 م من توجيه نقد لاذع لبعض البعثيين العراقيين الذين تصوروا إمكان الجمع بين انتمائهم للإسلام وانتمائهم لحزب البعث (العربي الاشتراكي) فراحوا يمارسون بعض الطقوس الدينية الأمر الذي عرّضهم لهذا النقد اللاذع حيث قال البيان المذكور آنفا بالحرف الواحد:


(إن انتشار هذه الممارسات بنسبة معينة خلق حالة من البلبلة في صفوف الحزب ونشأ جدل بين الحزبين حولها وصار بعضهم في حالة من الحيرة إزاء هذه المسالة.


هل على الحزبي لكي يكون بعثيا أن يمارس الطقوس الدينية بصورة مفتعلة؟) ثم يضيف: (وقبل ذلك علينا أن نتساءل: إذ كانت مفاهيم وممارسات التدين قد اعتبرت من فبل بعض الرفاق بديلا أخلاقيا أو عقائديا عن حزب البعث العربي الاشتراكي وسبيلا لحل المسائل الجوهرية في الحياة فلماذا اختاروا حزب البعث العربي الاشتراكي؟



الرأي القرآني الفصل


:

ومهما كانت موقفنا من الحياة فأن أحدا لا يشك في أن الأنبياء (عليهم السلام) كانوا قادة تحركات حضارية كبرى تركت أكبر الآثار الثورية على الحياة الإنسانية. هؤلاء الأنبياء كانوا يركزون في دعواتهم على محوريين أساسين هما:


(عبادة الله، واجتناب الطاغوت) وذلك وفقا للآية الشريفة: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت... ) (النحل/36(


أما الإلحاد أو الشرك فلا يمكن معهما تحقيق التحرك المطلوب والعمل النافع (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه..) (النور/39).


ويقول تعالى في سورة العصر: ( والعصر. أن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. ) فهم وحدهم القادرون على تحقيق النجاح على المدى الإنساني.


ولسنا بصدد بيان نظرية العمل الثوري في القرآن الكريم بقدر ما نريد التأكيد على أنه يركز على ضرورة عنصر الإيمان في كل عمل تغييري ثوري تماما كما يركز على أن المؤمنين والأنبياء عبر التاريخ كانوا في طليعة الثوار صلابة وطهارة وعملا على التغيير الشامل.


قول القرآن بهذا الصدد: ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) (القصص/ 5-6).


ويقول: ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) (آل عمران/146(.



ويقول تعالى: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجدة/24 (. ويقول تعالى أيضا : ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) (الصف/4(. فالهدفية والإيمان هما إطار العمل الثوري في التصور القرآني.


يجد المرء ظاهرتين غريبتين في مجال من يعطون رأي الإسلام في مسألة أو موضوع من المواضيع. ولئن عبرت إحدى هاتين الظاهرتين عن جهل وتعال على الواقع فان الأخرى تعبر حتما عن عدم التفات للعواقب السيئة التي تترتب عليها.



أما (الظاهرة الأولى) فهي ما نطالعه أحيانا في بعض الصحف والمجلات واسعة الانتشار وحتى ما نلاحظه في أماكن التجمع العامة من قيام بعض الكتاب البعيدين عن الإطلاع على الأحكام الإسلامية ومصادرها التشريعية، قيامهم بإعطاء رأي في بعض القضايا ناسبين ذلك الرأي للإسلام، ومستشهدين برواية (أو روايتين) مدعين أنها تدل على المقصود.. ولقد استشرى هذا الداء حتى رأينا بعض الخارجين على العرف الديني من أمثال أصحاب المجلات الخلاعية يحاولون أن يعطوا رأي الإسلام للناس!! وأخيرا قد طالعنا بعض الآراء البعيدة عن روح الإسلام والتي أبداها بعض الرياضيين المشهورين أو بعض الحكام العسكريين البعيدين عن عالم الفتوى والتشريع!! وكل منهم يصر على أن هذا هو رأي الإسلام الذي يجب أن يطبق.. وحتى بلغ الأمر -وشر البلية ما يضحك- إن احد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية هو الآخر أدلى بدلوه، وصار يصنف المسلمين بل ويعلن أن هذا الأمر مثلا يتطابق مع الإسلام أولا!!!



والمفارقة العجيبة هي أن الذين اشرنا إليهم آنفا ينادون بالتخصص وفصل الدين عن المجالات الأخرى سياسية كانت واقتصادية ويعترضون على تدخل العلماء في شؤون السياسة وغيرها ولكنهم سياسيين أو عسكريين يسمحون لأنفسهم بإعطاء الآراء والتدخل في شؤون الدين.



وعندما يعترض غلى أمثال هؤلاء بأنهم ليسوا بأهل لذلك، يتعللون بحجة أنه ليس الدين وفقا على أحد وأن الإسلام جاء لجميع الناس، وأه ليس في الإسلام طبقة خاصة تدعى برجال الدين وما الى ذلك.والموقف من هذه الفئة واضح للواعين، ويجب أن يكون واضحا للجميع وإلا فالخطر الشديد يهدد مصيرنا ويدفعنا إلى تصور إسلام لا يمت للواقع بصلة.



إننا نقول: نعم ليس الدين وفقا على أحد، وكذلك ليس في الإسلام طبقة خاصة تدعى ب( رجال الدين) كما هو الأمر في المسيحية الكنسية،كل ذلك صحيح ولكن أين هي الموضوعية؟



أليست الموضوعية تقتضي منا أن نقوم -فبل إصدار أي حكم أو التعبير عن أي رأي من آراء الإسلام العظيم- بمعرفة مصدر التشريع والإطلاع على أسلوب الشارع والتفقه في النواحي الدينية ومعرفة كل ما يتوقف عليه الاستنباط وذلك ليس بالأمر السهل الهين خصوصا ونحن نبتعد عن عصر التشريع بقرون ومع هذا فلن يستطيع أحد أن ينكر أن مقام إصدار الرأي يتطلب مستوى رفيعا وخبرة تخصصية، وملكة وقدرة على استنباط الرأي الإسلامي وتحديد نوعيته، وهذه الملكة لا تتوفر طبعا لأي كان.


إن أولئك الذين يقومون بهذا يكشفون عن جهلهم وتعاليهم عن الواقع بعملهم هذا إن لم نقل إنهم يكشفون عن لامبالاة بالدين واستهتار بأحكامه، وانحراف عقائدي - بالتالي- عن خطه المستقيم.


 


و( الظاهرة الغريبة الأخرى ) التي نعتبرها أحيانا أخطر من سابقتها وذلك لأنها متفشية بين من يفترض فيهم أن يكونوا الفئة المتخصصة في هذا المجال، هي ما نشاهده كثيرا من قيام بعض من تسنموا مقام الفتوى، أو أشرفوا على البرامج الدينية في بعض الإذاعات أو المجلات الدينية وغيرها، قيامهم بإصدار الآراء السريعة السطحية، محتجين بآية أو برواية أو بروايتين، ومن ثم فهم يحكمون في القضايا التي قد يتوقف عليها مصير قطاع كبير من الأمة :



فكم رأينا من هؤلاء من يحكم بأن العمل الفلاني شرك، والآخر كفر، والثالث انحراف عن طريق الحق، استنادا لرواية تعارضها رواية أخرى، ولربما كانت الروايات المعرضة أقوى منها ومقدمة عليها؟! وكم رأينا ممن دعوا إلى آراء غريبة عن روح الإسلام كمسألة تحليل الربا القليل، ومسألة تجول المرأة مع زوجها في النوادي، والأهم من ذلك مسألة الحكم في الإسلام، استنادا إلى رواية أو مقطع من آية كريمة لم يلاحظ فيه ما اقترن به؟!وكم رأينا ممن قالوا بآراء عقائدية شاذة قد تشكل طعنا في أقدس شخصية إسلامية وذلك بالاستناد إلى مثل رواية (الغرانيق العلى(.


وكم رأينا من أمثال من يستدل لكون الإسلام اشتراكيا بالحديث الشريف الذي يتضمن أن الناس شركة في الماء والنار والكلأ -وكفى!! ولا نريد أن نتعدى عن هذا المجال إلى المجال التاريخي لنعرض طرفا من التشويه الذي حصل نتيجة لهذا التسامح المقيت في تقبل الروايات التاريخية. وكذلك لا نريد التعدي إلى أولئك الذين يعتبرون مجرد وجود رواية من نوع ما في كتب فريق من المسلمين دليلا على كفرهم ومروقهم أو على الأقل دليلا على تبني ذلك الفريق لفكرة الرواية عموما!!



هذا في حين أنهم يعلمون جيدا أن الأمر ليس بهذه السهولة، فالأخبار مثلا لا يمكن الاستناد إليها إلا بعد قطع مراحل دقيقة، وذلك بالتدقيق في سند الحديث وفي متنه ودلالته، ثم ملاحظة ما يمكن يعارضه من أحاديث أخرى، أو اجتماعات أو غير ذلك مما يمكن أن يشكل قرينة على خلاف الظاهر منه، إلى ما هنالك من أمور يجب أن تتوفر حتى يمكن الاستناد إلى الحديث في إعطاء حكم الله. وقل مثل ذلك في مجال الاستناد إلى أي مصدر تشريعي آخر.


ولربما يعترض علينا معترض بأنكم تسدون بهذا الباب الاستشهاد بالآيات القرآنية والروايات الشريفة في كل المجالات. ولكننا نقول: بأننا ندعو إلى التفريق بين مجالين، مجال إصدار الفتوى والرأي ومجال البحث والتحليل والتحميص بحثا عن الحكم الواقعي :


فيجب أن يخلوا المجال الأول من الاستشهاد إلا في حالات يتأكد فيها المفتي من وضوح الدلالة فيها للأغلبية وعدم وجود المعارض وهي حالات نادرة وخصوصا إذا لاحظنا التغيير الطارئ على المفاهيم يوما بعد يوم، ولاحظنا كثيرة التخصيص والتعارض الحاصل في الروايات نتيجة عوامل كثيرة لا مجال لعرضها.



أما مجال البحث والتحليل والتمحيص فهو المحل الذي يتم فيه الاستناد والاستشهاد والذي يتعرض فيه البحث إلى كل جوانب الموضوع وهو المطلوب ، ولكن هذا المجال الأخير ليس مجالا عاما يمكن أن تؤلف فيه كتب للجميع وإنما هو للطبقة التي هي في مستوى فهم تلك البحوث وتمحيصها.


هذا وإننا نذكر السادة المفتين بان ذكر بعض الروايات يفتح مجالا واسعا لاجتهادات سطحية من قبل من هم بعيدون عن هذا العالم، وذلك يجر بالتالي إلى خلط في المفاهيم لا تحمد عقباه، وقد تتجاوز آثاره ما ذكرنا من آثار للظاهرة الأولى.



والخلاصة : هي أننا ندعو إلى ملاحظة النقاط التالية:


 

أ- يجب أن تنحصر صلاحية الفتوى في الأمور الدينية بالأخصائيين الذين بلغوا مرتبة رفيعة تؤهلهم لملاحظة كل الجوانب في أي موضوع معروف. ويا حبذا لو قامت المجامع الدينية العالمية لتناقش وتحلل ومن ثم لتعطي رأيها بعد القطاع به ، وذلك لكي نتجنب بعض الاجتهادات الفردية المنعزلة.



ب- يجب أن نتجنب قدر الإمكان مسألة الاستشهاد بالمصدر التشريعي في مقام الفتوى إلا إذا تأكدنا بشكل لا يقبل المناقشة من وضوح الدلالة وصحة الاستناد وعدم وجود المعارض.



ج- يجب أن نعمل بكل جد وإخلاص على إشاعة الحقيقة التالية:(كن على مستوى الحكم ثم احكم )وهذا المعنى لا ينحصر في الشؤون الدينية بل يعم كل المجالات الحياتية وله آثاره -إن إيجابا أو سلبا- على المجتمع.


 


الإفراط في التأثر داء وبيل ارتأينا في هذا الظرف الذي تمر فيه أمتنا بمرحلة حساسة جدا من مراحل مسيرتها الطويلة، أن نشير إلى مسألة حياتية تمس أمتنا في الصميم وهي (مسألة الإفراط في التأثير) كداء عضال مازال ينخر في التيار العام من جماهير هذه الأمة المسلمة.


ونقصد بمسألة الإفراط في التأثر هذا الانعطاف الشديد نحو ما يجري في بلاد الغير من أحداث، وهذه السطحية في النظرة والتي تعتبر أية بادرة تصدر من الغير فتحا مبينا وبرهانا ناصعا على تحرك الضمير الإنساني عنده، واتخاذه لموقف مبدئي يبتني على أساس العدالة والحق، كل هذا من دون أن نجشم أنفسنا عناء البحث عن خلفيات هذه البادرة ومدى استقامتها.


ومن تطبيقات مسألة الإفراط في التأثر في مجال العلائق الدولية حالة الوحشة المخيفة أو الابتهاج الساذج، اللذين ينتابان الكثير ممن يواكبون الأحداث العالمية ويعايشونها حينما يشاهدون تغيرا يحدث في هذه الدولة الأجنبية أو تلك على مستوى الأفراد أو الأنظمة، ويتخذ هذا التغيير أبعادا واسعة التأثير في نفوس الأفراد ويمنحونه من الاهتمام أكثر مما يجب وفوق ما يستحق. نجد تطبيقاته كذلك في مجال السلوك متمثلا في هذه القابلية الشديدة للتأثير بأية (موضة) جديدة مهما كانت غريبة مادامت قد وصلت من بلاد الضباب.وهكذا تتأثر الحياة اليومية للجماهير في طريقة المسكن والملبس أو العادات الاجتماعية ، وتتغير تبعا لما يحدث هناك من تغيير وفي هذا ما فيه من فقدان الشخصية وذوبانها، وضعفها وتبعيتها.



وقد يتعدى الإفراط في التأثر جانب السلوك والمواقف العملية إلى المجالات العلمية والفكرية، وهذا ما يبدو ظاهرا -ومع شديد الأسف- عند الكثير من كتابنا وباحثينا، اذ يفترضون المراجع الأجنبية كمؤلفات المستشرقين -مصادر رئيسة للبحث عن تأريخنا وحضارتنا بل وحتى عن رسالتنا نفسها ومعالمها العامة، مع كل ما هو معروف من الأهداف المشبوهة لحركة الأستشراق الظالمة ومنابتها الأولى.وكأن تقليد هؤلاء الكتاب للمستشرقين في منهج بحثهم وطرق استدلالهم وتشكيك في كثير من المسلمات والبديهيات يعتبر شهادة ناصعة على تقدميتهم وتجددهم وتحررهم من القديم ومخالفاته. ولابد من التنويه أن هذا الحكم على كتابات المستشرقين إنما يتوجه للأكثرية منهم حيث لانعدم بعض الأقلام التي تتسم بقدر من الموضوعية والاتصاف.


وبعد أن قمنا بعرض هذه النماذج وفي شتى المجالات نعود لنؤكد أننا في موقفنا هذا لا ندعو إلى الانعزالية عن الأحداث العالمية أو ما يستجد في البلاد الأخرى مما لا ينافي شريعتنا ومفاهيمنا او عدم الاستفادة من جهود الآخرين وأبحاثهم.



إذ أننا نرى -وذلك من صميم عقيدتنا- أن علبنا أن نتلقف الحكمة من أي مصدر كانت، وان نطلب المعارف والعلوم ولو كانت في الصين وكذلك نعتقد أن على المسلم أن يعايش الأحداث ولا ينفصل عنها وإنما يجب أن يسعها بصدره الواسع وقلبه الكبير ليستثمرها في خدمة رسالته المقدسة التي لا تنحصر بمكان ولا تقتصر على شعب ولا تتفرد بها امة، وبهذا فإننا في موقعنا هذا إنما ندعو إلى أن يكون للفرد المسلم والأمة المسلمة موقف الشاهد والمؤثر لا التابع المتأثر قبل أي شيء، ولا يمنع هذا من التأثر الواعي والتفاعل المثمر.



وقد حبانا الله تعالى من الإمكانيات ، ورزقنا من الثروات، ما يؤهلنا لاحتلال هذا المركز القيادي في العالم، فهناك أولا تلك العقيدة الفعالة التي اشتملت على كل عناصر القوة والبقاء، وعندنا كذلك هذا الموقع الاستراتيج ي الذي لا مثيل له في العالم، فالبلاد الإسلامية تتوزع على قارتي آسياوإفريقيا وتتحكم في الكثير من الطرق البحرية والجوية المهمة وبعبارة جامعة فإنها تتحكم في عصب التجارة العالمية وشريانها.


وأما الثروات الطبيعية فحدث عنها ولا حرج، ويمكن أن نكتفي بذكر الذهب الأسود (النفط) الذي نملك اكبر احتياطي منه في العالم، والذي برهن على قوة فاعليته في الآونة الأخيرة وكيف بدأت الدول من كبراها إلى صغراها تطرق أبواب البلدان الإسلامية، مدركة أهميتها بعد أن لم تكن تقيم لنا وزنا في مجال العلائق والأحداث الدولية.


وأخيرا فأننا نرى أن ليس أمامنا للخلاص من الداء الوبيل -داء الإفراط في التأثر- إلا أن تقوم حملة فكرية واعية يرعاها مفكرون راعوا المشكلة والداء ونذروا أنفسهم بتخليص جسم الأمة منه. أن واجب المفكرين اليوم هو في تحسيس هذه الأمة بأنها هي وحدها ربان سفينة الحياة الحرة الكريمة في العالم المتلاطم بأمواج الانحراف وبهذا ينفض الغبار الذي تجمع من قرون وقرون عاشتها الأمة القائدة بعيدة عن مركز المسؤولية والقيادة.



فلنتجه جميعا إلى الإسلام ننهل من نميره العذب ونستمد من مفاهيمه المشرقة زادا ونورا في هذه المسيرة ، فإن الإسلام يركز على التربية الإدارة الحية المدركة في النفوس والتقبل الناقد لكل الأمور صغيرها وكبيرها تعبيرا عن واقعيته الأصيلة، ولزوم التلاقي بين أفراد الإنسان على مختلف الأصعدة وتلاحم الجهود في السير نحو الهدف المنشود وهاهي نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة تشتمل بين طياتها على أروع التعاليم في مجال إعطاء الأمة شخصيتها القوية المتميزة، فنفترض فيها أن تكون الأمة الشاهدة على الناس، والأمة الوسط، المترابطة في مابينها، والمتكافلة اجتماعيا والواعية لكل الأحداث.


 


التقدميـة المزيــفة


 


أصبحنا - ويا للأسف- نجد أن من المتعارف في منطقتنا الإسلامية بالإضافة المناطق الأخرى، تصنيف الإيديولوجيات إلى يمينية ويسارية ثم تصنيف اليمين إلى إيديولوجيا ت انعزالية واستعمارية وأخرى رجعية، ولا تحظى الإيديولوجية الدينية إلا بآخر رتبة من القائمة الصارمة!!


ويمكن أن يعتبر هذا التصنيف أحد الشعارات البراقة الخداعة التي حملها المتاجرون بالشعارات والذين أرادوا امتصاص تطلعات الناس في أمتنا نحو الحرية والعدالة والتقدم وأمثال ذلك... ليتحلوا هم مركز قيادة تطلعات الجماهير ويعزلوها عن القيادة الدينية التي شكلت أهم عامل لاستقلالها وامتناعها على الاحتلال بالرغم من ضعف الصلة بين العقيدة التي تقدسها هذه الجماهير والسلوك العملي لها نتيجة تاريخها الطويل وما أفرزه من عوامل التكاسل والاضمحلال .وقد ساعدت حالة شبه الانفصال بين العقيدة والعمل، وبين النظرية والواقع التنظيمي، بل وبين النظرية وما يفهم منها على ضيق افقه... ساعدت كلها على تقبل هذه الشعارات وملء الفراغ الفكري والعاطفي بها مما جر إلى حالة غريبة ، حتى ظننا في بعض اللحظات أن وجودنا نفسه مستعار من قبل طارحي تلك الشعارات البراقة! والمفاهيم المتضاربة!



ومن هنا كان من المحتم علينا -لاكمها جمين فحسب بل لما تقتضيه طبيعته رسالتنا -أن نقوم بعملية توعية كبرى لتوضيح الخلط الكبير بين المفاهيم وتعيين مدلول كل لفظ بدقة وموقع هذا المدلول من مسيرة التقدم البشري ومدى انسجامه مع تطلعات الإنسان بما هو إنسان، وموقع رسالتنا الإسلامية في هذا الزحام من المفاهيم فهل تتصف بها أو تحتضنها؟ أم هل ترفضها؟ أم هي حيادية تجاهها لأنها تنطبق ومناطق الفرغ في الرسالة؟فما هي التقدمية مثلا وما هي الرجعية في المقابل؟ وما مقومتها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تختلف باختلاف النظرة للإنسان ولمسة تقدمه ولذا فلا يمكن أن تحاكم إجابة على حدة إلا بمقدار انسجامها مع المبدأ الذي انطلقت منه..فإذا أردنا الواقع الموضوعي كانت الموضوعية تقتضيها أن نقارن بين النظريتين من حيث واقعهما أول ومن حيث مردوديهما الإنسانيين .



وبتعبير آخر فإنا لا نستطيع أن نصف مسيرة ما بأنها مسيرة متقدمة أو مسيرة متراجعة إلا بعد أن نعين هدفا متفقا عليه يشكل الاقتراب منه تقدما والابتعاد عنه تراجعا.. وقد لا يكفي تعيين الهدف ليتحقق مفهوما (التقدم والتراجع) نظرا لاختلاف جهات القرب والبعد وتنوع زوايا النظر للمسيرة وهدفها.. ومن هنا فانا نحتاج لتعين أطر عامة مرنة يكون السير خلالها سيرا على الخط المستقيم الذي هو أضمن الطرق للوصول إلى الهدف.وبمقدار تقدم الأمة على الخط يكون انطباق المفهوم عليها أقوى.. وبمقدار إعمالها لكل طاقاتها واستنفاد كل جهدها يكون اتصافها بحب التقدم والتكامل..


هذا بالنسبة للأمة، أما بالنسبة للمبدأ المحرك للأمة فبمقدار انسجامه مع هدفه الذي عينه وطريقه

العام وطاقته الحركية الدافعة يستحق أن يكون مبدأ تقدميا منسجما مع نفسه، وبمقدار انسجام هدفه الذي عينه مع الواقع الكوني والإنساني يكون مبدأ تقدميا منسجما مع المسيرة الإنسانية الحضارية الكبرى.



إن الواقع الإنساني - كما يوحي به الوجدان الذي لا يقهر وكما يؤكده التواجد الغريزي في العمق الإنساني- هو التكامل الإنساني المطرد بمختلف أبعاده الجسمية منها والمعنوية، بما يشمل البعد الفكري والأخلاقي والعاطفي. وأمثالها.. فإنا وجود غرائز (حب الاستطلاع، وحب الكمال، وطلب الارتباط بالمطلق وأمثالها) يؤكد أن الخلقة العامة غرست في وجدان الإنسان صورة هدفه الكبير هو:


(التكامل في مختلف المجالات والكشف المتواصل للمجاهيل والارتباط الأوثق بالمطلق) وكل مبدأ استمد هدفه من هذا الواقع كان أقرب إلى التقدمية، وكل نظرة أكدت على المطلق وركزت صفاته المطلقة وشدت الناس إليه شدا متواصلا لا وقفة فيه ولا تراجع ولا إهمال طاقات فهو الأكثر تقدمية، وعلى العكس من ذلك يعتبر المبدأ الذي يبتعد بالإنسان عن هذا الواقع مبدأ رجعيا، وكلما أوغل في الابتعاد يكون قد أوغل في الرجعية المقيتة.بهذا المقياس الذي لا نظن أن أحدا يجانبه إلا وهو يشعر في قرارة نفسه ببعده عن الحق يجب أن نقيس تقدمية الرسالات والمبادئ وعدمها.وبهذا المقياس نستطيع أن نقول إن الإسلام هو المبدأ التقدمي الأصيل الوحيد الذي يعين هدف التكامل ويصبه في قالب السير نحو الله ذلك المطلق الحقيقي الذي يبقى فوق كل تكامل، يشد إليه المسيرة الإنسانية ويحرك فيها كل الطاقات الفعالة، ولن تصل المسيرة يوما إلى نقطة يقف فيها تكاملها في هذه الحياة مادامت منشدة إليه تبتغي أن تصل إلى واقعها العبودي الكامل ( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) وتسعى بكل جد نحو ذلك المطلق ومعرفته ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه(.



ولا نتوقع - مع الإنشداد بهذا الهدف الكبير- التهاون والتكاسل. وقد جند الإسلام، لإبقاء الروح الدافعة، نظما تربوية وتوجيهات وتعاليم فكرية رائعة تبقي الإنسان المسلم -لو وعاها وتفاعل معها- شعلة وهاجة على طريق العمل في سبيل الله.وهذا مع إهمال التطبيق الخاطئ للإسلام وآثاره وعدم حساب أي قيمة لأولئك المنتسبين أسما للإسلام، فإنهم لا يشكلون خطيئة تنسب إلى الإسلام بحال.إن روح العمل والتوكل هي السارية في مختلف مجالات التوحيد الإسلامي، فالعمل الجاد يستمد من التوكل -الذي يعني الإنشداد بالمطلق- طاقة حركية دائمة دافعة نحو التطور والإبداع المتواصل.


وهكذا كان الإنشداد الكامل بالله المطلق الحقيقي هو الهدف، وكانت تعاليم القرآن والإسلام هي الصراط المستقيم الذي يجب الثبات عليه وعدم الانحراف عنه..فبمقدار التزام الصراط ووعي جوانبه وعدم ادخار أي جهد في المشي على هديه يكون التقدم الحثيث:



(وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه )


(فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا)


(ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم )


(فمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم)


(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة)


فأي توقف في سبيل الاتجاه إلى الله وأي خروج عن الطريق يعتبر مرفوضا في المنطق الإسلامي : ( اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين(. أما مدى استقامة هذا الطريق المطروح فهو له مجاله، فانه يمكن إثباته إجمالا بملاحظة الأدلة القاطعة، وبمقارنته وانسجامه مع الهدف الكبير، وتخلصه من نقاط الضعف الموجودة في المبادئ الأخرى. ويكفيه فخرا أنه المبدأ الذي أشبع جوانب الوجود الإنساني فكرا ينسجم مع الفطرة وقوانين مترابطة تتناول مختلف الجوانب الحياتية وتعالج كل المشاكل أروع علاج.


ومن هنا نعرف أن المبادئ التي ابتعدت عن هدف الكمال المرتبط بمطلق حقيقي، والتي شدت الإنسان بالتراب والمادة الخرساء والاقتصاد غير الشاعر، أو الحرية غير المسؤولة أو الغريزة الجامحة - من أمثال الرأسمالية ، والاشتراكي ة، والوجودية والفرويدية ، إن هذه المبادئ أرجعت الإنسان طفلا يتعامل مع واقعية المادي وينسى القسم الإنساني الأصيل المعنوي فيه.. وإن هذا المبادئ لا تملك أي مسوغ يدفع الإنسان للتكامل الصحيح، يضمن بقاء المسيرة المتكاملة، لأن مطلقاتها ( الاقتصاد، الحرية، الغريزة.. وأمثالها) هي أمور نسبية تصبح قيودا على المسيرة الحضارية الصحيحة في يوم ما، وتخلق الانفتاح في جانب من جوانبها على حساب الجوانب الأخرى، وهذا هو الواقع الذي نشاهده في التمدن القائم بكلا جناحيه الغربي والشرقي.



التنازلات المبدئية احد الأدواء المعاصرة



كانت نعمة نشازا تلك التي رددها بعض كتاب هذا العصر حول الدعوة إلى حل الخلافات الفكرية، والاختلافا ت المتنوعة في وجهات النظر على أساس جذري (!!) عبر الرجوع إلى المبادئ وتغيرها (!) ولئن وجدت هذه الدعوة من يؤيدها -ولو بطرف خفي- فإنها على الأغلب قد رفضت من قبل الكثيرين، بل الأكثرية الساحقة ممن تعرضوا لها بالخصوص أو بطريقة غير مباشرة. لأنها، وبأبسط عبارة، تتعارض -على الأقل مع الإيمان بالمبدأ أيا كان ذلك المبدأ وأيا كانت الأسباب التي أدت إلى اعتناقه.وقد لا نعجب لو كانت هذه الدعوة منطلقة من أناس يختارون مبادئهم اعتباطا، ووفقا لميولهم الشخصية.. ولكن العب أن تكون منطلقة من امة وعت أن حياتها ي مبدأ معين دون غيره، وأن فطرتها والواقع يركزان عليه.. فاعتنقته.. فأحياها بعد موت، وأيقظها بعد غفوة، وجعلها محور الحضارات بعد أن كانت تركض وراء السراب!!



كان هذا كله على الصعيد الشعوري حث ووجهت هذه الفكرة بالرفض الشامل ولكن هذا يدعو إلى الأسف أن نشاهد بعض أفراد الأمة الذين تصدوا لمركز حساسة فيها، من قيادة فكرية أو اجتماعية، قد تنازلوا عن قضايا مبدئية بشكل لا شعوري -كما يبدو- حتى عدنا نرى هذا التنازل يتعدى جانبا أو جانبين ليصبح ظاهرة مرضية خطيرة، تتطلب المزيد من العناية والبحث عن أسبابها وطرق علاجها ومحو مظاهرها.



وعندما نحاول التصدي لمعرفة أسباب هذه الظاهرة الغريبة - خصوصا- على أمتنا تبرز لنا ظواهر أخرى، تشكل بدورها المبررات الموضوعية والعلل الرئيسة لها.وأبرزها جميعا هو انعدام (الوعي الشامل) للشريعة الإسلامية، وعقائدها ونظراتها العامة ونظرياتها الشاملة لكل نواحي الحياة.وهذه الظاهرة لا تشكل علة بروز المرض الذي نتحدث عنه فحسب بل هي – في الواقع- علة العلل في كل مشاكلنا الاجتماعية ولقد أثرت هذه الظاهرة في إيجاد صنفين من المؤمنين، لا يرى الإسلام أنها ممن يصح أن يوصف بـ (الإيمان(.



الأول : صنف المؤمنين المقلدين للآباء والمحيط


الثاني : صنف ضعاف الإيمان الذين هم في أية لحظة مستعدون لتخلي عن نقاط مبدئية في سبيل خلق التلاؤم بين عقيدتهم والآراء الوافدة.


وقد زاد الطين بلة تكلم النكبات الاجتماعية المريرة التي مرة بها أمتنا.. فلم تصح إلا والأعداء يحيطون بها من كل جانب والغزو بكل أوجهه يحطمها ويفرض عليها نفسه رائدا وبانيا.وهكذا تهيأت الأرضية الملائمة -مع الأسف- لبروز ظاهرة التنازلات غير الشعورية على مختلف الأصعدة.والذي يهمنا أن نتعرض له هنا ونشير إليه من مظاهر هذه الظاهرة هي بعض تأثيراتها في المواقف الفكري، والمواقف العملية.


 


أما تأثيراتها في الموقف الفكري فيمكننا أن نلمحه بكل سهولة حينا.. وبشكل معمق أحيانا أخرى.فمن الأشياء التي ما عادت بدعا -وهي بدع- ما نلاحظه من مؤلفات فكرية كثيرة كلها تركز على أن تلبس الأفكار الغريبة تماما على الروح الإسلامية لبوسا مبدئيا يجعلها تتجاوز مرحلة قبول الإسلام لها إلى مرحلة تبنيها وإشاعتها، في حين أنها في الواقع تتعارض مع المبادئ الإسلامية معارضة جوهرية، ولا تعني عملية التوفيق بينهما إلا التنازل عن مقتضيات المبدأ نفسه.


وفي الأمثلة الشائعة في هذا المجال ما نسمعه أحيانا من نغمات ( الاشتراكية الإسلامية، والوطنية في الإسلام، والقومية المؤطرة بإطار الإسلام، والديمقراطية في التشريعات الإسلامية(.


 


كما ويمكننا أن نصنف إلى جنبها كل الدراسات التي تحاول أن تنطلق في دراستها للحياة الفكرية والعملية الإسلامية من منطلق (البحث الاجتماعي) الذي يفسر كل شيء بعامل اجتماعي، متناسيا كل مبادئه ومسلماتها الأولية.. أو أولئك الذين يحاولون أن يبنوا ما يعتقدون على أساس من المنافع المادية التي يمكن تصورها لذلك، تماما كما تقول نظرية (البراجماتزم)، وقد تسمح لنا فرصة أخرى نتعرض بالتفصيل لهذا الجانب وما يعكسه من ظواهر.


وأما المواقف العملية التي نشاهدها اليوم تتكرر على الساحات الاجتماعية ومجال التعامل مع الأعداء التقليدين للأمة فهي ذات أمثلة كثيرة نقتصر منها على مثال واحد، لأهميته وارتباطه بمستقبل مصيري لهذه الأمة. وهذا المثال هو ( القضية الفلسطينية ) والمواقف المتنوعة منها. والمتتبع لتدرج المواقف من القضية منذ إرهاصات الهجوم اليهودي وحتى اليوم يجد التناقض العجيب بينها أولا، ويشاهد التنازلات المبدئية الكبرى بعد ذلك.



فلقد كانت مواقف المسلمين من القضية واحدة من البدء، وهي كلها تؤكد أن الإسلام لم يقبل مطلقا أن يضام أهله، وأن تسلب أرض هي جزء حبيب من أراضية، وعلى هذا الأساس فقد قاوم الجميع، وتعاون الجميع، وكادوا أن يدفعوا العدوان لولا تدخل القوى الكبرى الكافرة على اختلافها واحتضانها القضية الصهيونية، ودعمها بكل وسائل الدمار: الفكرية والعسكرية وحل الاحتلال واقتطعت الأرض، وأصيبت الأمة بهذه النكبة.وهنا لم تكف اليد الآئمة عن العمل بل عملت على أن تنسي الأمة قضيتها هذه وتهونها لديها.. فما قيمة أرض صغيرة أمام كل تلك الصعاب التي يجب أ تواجهها الأمة في تحريرها أولا؟ ثم ليست هي إلا قضية تخص طائفة من هذه الأمة، وهنا بدأت التنازلات الغربية بحصر القضية بالأمة العربية، وإماتة كل مساهمة فعالة في مجال مساهمة المجموع الإسلامي في التحرير.ولئن تجاوزنا عن التنازلات الأخرى -وهي بدورها خطيرة- فإننا نعتبر رفع شعار( الدولة العلمانية>> هو المرحلة التالية، التي تشكل تنازلا خطيرا.. فأنى يا ترى يمكن أن نسوغ رفع هذا الشعار في وسط معركة الإسلام والصهيونية الحاقدة، ومن قبل من يعتبرون رأس الرمح في العمل نحو تحرير فلسطين؟ ثم ألا يعتبر رفع هذا الشعار تفريطا بكل ما يمكن أن تقدمة الوحدة الإسلامية والتعاون الإسلامي في الأمة الإسلامية من عون فعال في سبيل التحرير الكامل؟!


قد يقول بعض الأشخاص من أصحاب هذا الشعار إنه السبيل الوحيد لإقناع أوروبا بأننا لا نريد نلقي اليهود في البحر.. ولكن هذا المنطق بعيد عن الصواب، إذ متى رأت أوربا المجتمع الإسلامي يلقى أهل الكتاب في البحر.. إن اليهود والنصارى عاشوا في كنف المجتمع الإسلامي قرونا وقرونا يتمتعون بحقوق هي فوق الكفاية ماداموا ملتزمين قوانينه العامة، هذه بالإضافة إلى أن رضا الرأي العام الغربي لا يعني إلا التنازل التام لا غير، وذلك مضمون قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم). اللهم إن هذا تنازل خطير وإن لكم يشعر به أهله.واليوم نرى على الساحة الإسلامية أشباحا أخرى لتنازلات أعمق وأبعد غورا من أمثال الشعبين المنفصلين. . وأخيرا الفكرة القائلة بأن النزاع إنما هو في جوهره اختلاف وجهة النظر بين الدول العربية وإسرائيل، ولا دخل للقضية الفلسطينية في البين!


ويجب التنبه هنا على أن مثل هذه التنازلات تعني الاستسلام للأمر الواقع، وهو يحمل في ثناياه ضياع الكثير من ممتلكاتنا، ويتطلب منا فيما بعد الكثير من التنازلات الأخرى التي يضيق عنها الحصر.وأخيرا فإننا نذكر الإخوة المسلمين بتعليم الإسلام الخالدة التي لن تتغير أو تتبدل، وبطريقته التي ستبقى هي الطريق الأمثل لنجاة البشرية، وبأوامر القرآن الحكيم ووعوده بالنصر لو استقمنا على الطريقة.



(وأن لو استقاموا على الطريق لأسقيناهم ماء غدقا )


(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)


(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لاتخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون )


كما ونذكرهم بأن أي تنازل عن أي جزء من مقتضيات العقيدة يعني في الواقع تنازلا عنها كلها، وهذا ما يمكن أن نستفيده من إنكار القرآن على من يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه الآخر، وذلك أن العقيدة والنظام الإسلاميين كل مترابط لا يقبل التجزيء.


 


اللامبالاة في الشخصية الحاضــرة


 


قد يكون الانتقاد الشديد الأكيد الذي يتوجه إلى مجتمعات المدنية الحاضرة متركزا في عمليات التحليل المتعددة الجوانب.. التحلل من سماع نداء الفطرة.. التحلل المفرط من كل ما هو إنساني واجتماعي.وهذا العري الاجتماعي والأخلاقي إنما هو في الحقيقة ظاهرة مرضية نفسية خطيرة لمرض (اللامبالا ة) وهي تصيب الشخصية الفردية فيتيه الفرد في دروب انعزالية تارة، وفوضوية أخرى. وتصيب الشخصية الاجتماعية فتسلبها أهم عنصر مقوم لتماسكها وكينونتها وبقاء إطارها الاجتماعي، وهي (الكون بمستوى المسؤولية) حيث لا يكون له أي مفهوم عند طروء ذلك المرض الخبيث.



ويمكن أن نمد أعيننا إلى أية حضارة منحلة في أي عنصر فنلاحظ أن الأمة التي كانت تحمل شعلتها كانت متماسكة قوية مادامت روح المسؤولية والتألم، وحمل هم إبقاء الحضارة روحا سارية فيها، ولكن ما إن تبدأ تلك الروح بالذوبان حتى يبدأ المؤشر بالميل نحو علائم السقوط.. فيمكننا -والحال هذا- أن نؤرخ للنمو الحضاري في الأمة بمسيرة نمو الشعور بالمسؤولية وتعاضمه، حيث ينتفي موضوع اللامبالاة نتيجة للوعي العام.



في حين نلاحظ الانحسار الحضاري التدريجي يتبع عمليات نقصان الشعور بالمسؤولية وتعاظم مرض اللامبالاة في الفرد والمجتمع.. .ويكفينا أن نلاحظ انطلاق المسيرة الإسلامية الظافرة من مهدها الأول.. وكيف كانت نتيجة الوعي الأقصى في الرسول الكريم أن حملته السماء مسؤولية تربية البشرية وإيصالها إلى نهاية مطافها الذي أرادها الله لها...وكذل ك كيف كانت الانتصارات -تلو الانتصارات - تتبع تركز شعور المسلمين الأوائل بالمسؤولية التي تجاوزت مسؤولية فرد أو قطر أو أمة فبلغت إلى حد مسؤولية عالمية وهم إنساني يتجاوز حتى حدوده الزمانية.. ليركز نظرة المجتمع الإسلامي الأول على( اليوم الموعود ) الذي يكون الدين كله لله فيه.



وهكذا يمكننا أن نتابع بعد ذلك الهبوط الحضاري الذي أصاب الأمة نتيجة لدخول عنصر اللامبالاة بالعقيدة او بمقتضياتها وترك الأمور على عواهنها، وانشغالها بأمور توافه جانبية، وأهداف رخيصة،.. مما أورثها الانحلال والضياع وأقها حتى أرضها كما ي تربة الأندلس.. وانتهت إلى ما نراه اليوم من وضع لا يطاق تحمله.


ترى هل نستطيع أن نوفق -ولو في مرحلة الخيال- بين المسؤوليات الجليلة الملقاة على عاتق الفرد والأمة، من جهة، وهذه ( اللامبالاة ) التي نلاحظها متفشية في كل تصوراتنا وجالات حياتنا الفردية والاجتماعي ة -من جهة أخرى- حتى عادت بعض صور المسؤولية التي حملها إلينا التاريخ في مجتمع صدر الإسلام، عادت خيالا وحلما وهي واقع طبيعي في الأصل، وذلك يتضح في أمثال قوله أمير المؤمنين علي (عليه السلام(.:


(ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع..أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى.. أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكارة الدهر..أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش! فما خلت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة، همها علفها )



أن المسلم والإعلام الإسلامي اليوم على الرغم من إيمانه بالإسلام ومسؤولياته الجسام ليعيش حالة قلق في مجال التوفيق بين هذه المقتضيات وأعراض هذا المرض الخبيث ( اللامبالاة ) وقد يكون قد توصل إلى توفيق خيالي بينهما جاء به كمسوغ ، نتيجة لانحراف بعض المفاهيم الإسلامية في ذهنه كالزهد والقناعة والصبر عن مدلولاتها الأصلية، ونتيجة لتهويلات وأباطيل المرجفين الذين صاغوا صيغا شوهاء لهذا التوفيق من جهة، وقصروا أنظار كل قطعة من أجزاء المجتمع الإسلامي على ظروفها البيئوية فحسب.


 


هذا هو المرض.. فكيف العلاج؟!



والحقيقة.. إن مثل هذه الأمور لن يستطيع أن يعالجها مقال أو كتاب.. كما يجب أن لا نتوقع إعجازا سماويا جديدا بعد أن توضحت مسالك الرشاد والانحراف( قد تبين الرشد من الغي ).. ولذا فإن مشروع علاج الأمة من هذا الداء يجب أن يستمده الجهاز التربوي والإعلامي في المجتمع من الأسلوب الإسلامي في علاج حالة الموت الحضاري بمفهومه الصحيح والتي كانت سائدة في مجتمع ما قبل الإسلام.إننا لو تابعنا ذلك العلاج الإلهي لأمكننا أن نلخصه بأمور ثلاثة ) الإيمان.. الوعي.. العمل المجسد لهما)


فلقد كانت خطوات الرسول الأعظم(صلى الله عليه وسلم) الأولى تركز على مسألة خلق المؤمن، وتغيير النظرة إلى الكون، تحديد مركز الإنسان كمخلوق يقف إلى صف كل أجزء الكون المخلوقة في مجال الاحتياج للخالق الرازق الواحد المهيمن..( قولوا لا اله إلا الله تفلحوا).. وكان التركيز شديد حتى عاد الإنسان المسلم الأول يحس إحساسا عميقا بهذه الرابطة بينه وبين خالقه فهانت في نظره كل الآلهة المصطنعة.


كان الوعي الذي غرسه الرسول في النفوس المؤمنة، وعي مقتضيات الإيمان بالله والرسول العظيم والإسلام.. وعي خلافة الإنسان المسلم للأرض.. وعي كون الأمة المسلمة الطليعة الحضارية لكل أمم الأرض.. وعي العمل لإنقاذ الأرض من براثن الظلم والإلحاد والضياع ، وعي دخول آخر مرحلة من مراحل التكامل الإنساني والعمل على إيصال القافلة البشرية إلى الغاية، كان ذلك الوعي هو الذي رسم على جبين الإنسانية أروع صور التلاحم والتماسك وهو الذي أذن للمؤشر الحضاري أن يبدأ خطة التصاعدي، فغير وجه العالم الكئيب، خلال فترة لا تعد شيئا في عمر الإنسان، إلى وجه مشرق مليء بكل الصفات الإنسانية الحية. وهكذا تشابك الإيمان والوعي، فلا إيمان صناع بدون وعي لمقتضياته.


وجاءت مرحلة العمل، فعمل الإسلام على أن يخصص شطرا من سلوك الإنسان، فيوجهه فيها بتوجيهات اسمها (العبادات) محاولا فيها -أروع محاولة- أن تكون المناخ الملائم لتجسيد ذلك الإيمان والوعي وكذلك التصميم والعزم والتزود من الطاقات الخيرة والتخطيط للعمل الإنساني العام في مختلف الحقول.


وهكذا كان الدور التركيزي العلمي للعبادات يواكب نمو الإيمان والوعي، ويذكر بدرجتهما في الإنسان.. فكان المسلم حينما يقف للصلاة يشعر - بعمق- بحرارة الإيمان الواعي وبروعة الصلة بينه وبين خالقه، ويحاول أن يجسد هذه العلاقة تجسيدا حينما يقول في صلاته : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) أو (سبحان ربي العظيم وبحمده).. بما لا يمكن للقلم هنا أن يستوعب جوانبه.



وهكذا كان الأمر في عملية الصوم الرائعة التي استهدفت ضمن الإطار العام للعبادات تركيز الإيمان بالله -من جهة- حيث تتحول العلاقة بين الصائم وربه إلى علاقة مراقبة ورحمة في كل آن، إذ يشعر أنه في ضيافته الخاصة التي تعبر عن الضيافة العامة وهي حيلة ضمن عطاء الله العام. واستهدفت عبادة الصوم تركيز الوعي، إذ أشعرته بمقتضيات إيمانه وإسلامه ولزوم الائتمار بها، وحملها والعمل بها ، والقضاء على كل المشتهيات التي تعوق تطبيقها.. وامتلاك الإرادة الواعية المؤمنة في أي مجال من مجالات العمل العام.إننا هنا لن نستطيع أن نستعرض الدور الفعال للعبادات بصورة عامة في هذا المجال. ولكننا نريد أن نذكر بأن العطاء العبادي كان فعالا حينما كانت العبادات تلامس روح الإنسان وتنفذ إلى أعماقه وتتفاعل مع وعيه.



فإلى رجال التربية الإسلامية، والى رجال الإعلام الإسلامي، والى كل فرد مؤمن متحسس بقضيته نوجه هذه الدعوة المخلصة، لنقوم جميعا بعملية تركيز الإيمان في الأمة بمبادئها أولا، ثم توضيح مقتضيات ذلك الإيمان وأبعاده الحقيقية الخالصة من أي شوب.. وبالتالي تحسيس الأمة ورفد شعورها بمركز العبادات وأسلوب أدائها الأمثل الذي يتمثل في الصلاة مثلا حينما تصل إلى مرحلة ( النهي عن الفحشاء والمنكر ) واقعا وفي الصوم عندما يصبح سبيلا رحبا للوصول إلى التقوى. ( يا أيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).


 


الطائفــة: أنواعها وتطبيقاتها


 


لا نجدنا بحاجة للبحث عن جذور هذه الكلمة، ومقارنتها، فمعناها واضح وإن كان هذا المصطلح يعد حديثا، في حين كان التعبير السائد بدلا عنه هو (التعصب)، ولسنا نرى بينهما كثير فرق في الاستعمال، ومن هنا، فان ما نقوله عن أحدهما، يقال -البتة- عن الأخرى.وإذا تم هذا وعدنا إلى الحياة الإنسانية ، ( الفردية والاجتماعي ة ) وجدنا هذه الصفة تكمن في أنماط متنوعة من السلوك الإنساني، بل وتشكل جوهرها المتحرك ، وصفها الغالبة أحيانا، وربما تحولت إلى شعار يتبجح به أصحابه مفاخرة.


إننا نجد الطائفية العقائدية إلى جنب الطائفية العنصرية، تماما كما نجد الطائفية النسبية والعشائرية والجغرافية إلى جنب الطائفية الحزبية والسياسية. وبالجملة: فأينما سرنا لاحظنا ظلا للتعصب والطائفية يلوح كل راء، وخصوصا في أنماط معينة من الخطاب الإسلامي السائد ولسنا من أولئك الذين يتصورون الطائفة شرا على الإطلاق، بعد إن كانت تمتلك -على أي حال- جذورا في عمق التركيبة الإنسانية، وإنما نقول، بوجود حالة طبيعية معقولة وإيجابية لها، في حين يسير بها العمى والإفراط إلى الانحراف والسلبية.وإذا أردنا أن نجد لها مقارنا من هذه الجهة، لاحظنا أن الغفلة الإنسانية حالة فطرية، لها إيجابيات بلا ريب، وإلا لتجلت كل مصائبنا وآلامنا في كل آن في لوحة أذهاننا تماما، وهو أمر ينغص علينا الحياة بلا ريب، إلا أن الغفلة إذا تجاوزت حدودها الطبيعية تحولت إلى ضياع وسلبية ما بعدها سلبية. فلنلحظ إذن الجانبين في الطائفية والفروق التي تميزهما عن بعضهما.


 


أما الجانب الإيجابي فيمكن أن نلحظ تطبيقاته في الميول الطبيعية نحو الطائفة التي ينسجم معها الإنسان عقائديا وعاطفيا ونسبيا وجغرافيا ومسلكيا وغير ذلك.فلذلك طبيعي خصوصا إذا اقترن بمصالح طبيعية، كاستمداد القوة، والأمان ، والتعاون لتحقيق الأهداف المشتركة، ولن يكبت الإسلام أي ميل طبيعي على الإطلاق.يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة :


(ومن يقبض يده عن عشيرته، فانما تقبض منه عنهم يد واحدة، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة ، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة(.


وإن الإسلام يستفيد من هذا الميل الطبيعي لتقوية الآصرة الاجتماعية ، وتحكيم التماسك النوعي بشكل رائع. فـ ( أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وصلة الرحم من أهم ما بندب إليه مثلا.وقد أسلفنا القول إن لهذا جذورا في الفطرة، فالميل إلى القربى والأرض، وكل البيئة المنسجمة عقائديا هو ميل طبيعي يتلوه عمل طبيعي على إيجاد الانسجام بين السلوك وهذا الميل.

ومن هنا أيضا نجد أن إطلاق عبارات التعصب والطائفية السلبية على المواقف المبدئية، إنما هو إطلاق غير مسؤول أو متعمد مغرض.



ونعني بالمواقف المبدئية: تلك التي تتطلبها تصورات الإنسان المنطقية، المبرهنة عن الكون والحياة والإنسان: تاريخا وتركيبة ، وحاضرا ومستقبلا، ومنهجا سلوكيا عاما، نحو تحقيق الأهداف السامية. فإذا ما استقر الوعي الإنساني في هذه الجوانب على أرض صلبة مبرهنة، كان من الطبيعي أن يصوغ كل مواقفه وفق مبادئه ، وليس لنا والحال ها أن نصمه بالطائفية والتعصب.. نعم نستطيع أن نناقش مبادئه (الواحد بعد الآخر(.أما أن نلومه على الانسجام مع مبادئه فلذلك هو المنطق المعوج.. إذ نطلب إليه ألا يكون إنسانا يحقق التوازن بين ( العقيدة والعواطف والسلوك ) بل اللوم التام يقع عليه ولو لم يحقق هذا الانسجام.


 


إننا لا نعتبر التعصب -مثلا- لمقتضيات التوحيد الآلهي، والإيمان بالنبوة والإسلام منهج حياة، ومكارم الخلال، ومنهج الدفاع عن العدل ومحاربة الظلم- وخلاصة الأمر، الالتزام بما تقرره الفطرة الأصيلة الموجودة لدى أفراد البشر جميعا ، لا نعتبر هذه إلا الإيجابية الفاعلة بعينها.



ومرة أخرى نعود لنهج البلاغة لنجد أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) يقول : ( فإن كان لابد من العصبية، فليكن تعصبكم، لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال ، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل ، بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة) (فتصير الخلال الحمد من: الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي ، والإعظام للقتل ، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض( .



والواقع أننا لو اعتبرنا السلوك المبدئي تعصبا مرفوضا، كان علينا أن نضم سلوك الأنبياء العظام، وكل الربانيين والمجاهدين ومواقفهم الصارمة، نصمها- والعياذ بالله- بهذه الصيغة وهو أمر لو تم فانه لا يبقي قيمة إنسانية واحدة، والويل لإنسانية تضيع فيها القيم والمعايير. وإننا -مثلا- لا نعد من التعصب قوله بني يعقوب التي ينقلها القرآن :(إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) (البقرة/133 (. باعتبار أنها تعبر عن وعي وإدراك للحقيقة الكبرى.



وأما الجانب السلبي القابل للرفض من الطائفية والتعصب فهو يعبر عن انحراف في مسيرة المقتضيات الطبيعية -كما مر بنا قبل قليل- ذلك أن الفرد والأمة قد يبتليان -نتيجة عوامل معينة- بالضعف في الشخصية المحددة سواء على الصعيد العقائدي أو العاطفي أو السلوكي، فإذا ما صادف ذلك توفر عامل خارجي تحريفي أدى الأمر إلى ما نشاهده من أوهام عقائدية -من جهة- وتعصب جاهلي مقيت من جهة أخرى. ونعني بالعامل الخارجي التأثيرات التي يمتلكها ذوو المصالح الضيقة ، ويسعون لإيجادها في النفوس، تحقيقا لمطامعهم، وتمويها على الآخرين، وتسخيرا لهم لتحقيق تلك المآرب الدنيئة. وكمثال على ذلك (المترفون) الذين يتحدث القرآن عن

وساوسهم وإيحاءاتهم الشيطانية، وفي طليعتهم الفراعنة، الذين يستخفون قومهم ليتأكدوا من طاعتهم .)ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون . أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين. فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) (الزخرف:51 -54(..



ولو لم يكونوا قد فقدوا الحالة الطبيعية الإنسانية، حالة الوعي ( وهو المقصود من الفسق- كما نتصور) لما خفت شخصيتهم إلى هذا المستوى. ذلك هو ديدن المترفين أن يعملوا على إشاعة الفسق- بهذا المعنى- ليستطيعوا تحقيق مآربهم وراء ذلك : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) (الإسراء/16 (وربما كان الترف نفسه عاملا من عوامل التعصب لدى هؤلاء المترفين.



كما أن التكبر يشكل أحد العوامل لهذه الحالة السلبية وربما كان المثال القرآني أصدق تعبيرا عن هذا المعنى حيث يقول تعالى : ( إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين )البقرة/34(.(قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين . قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج أنك من الصاغرين ) (الأعراف/12-13(.



وعلى أي حال، فالضعف في الشخصية الفردية أو الاجتماعية ، والإعجاب بالنفس أو الطائفة والإفراط في الولاء، وتأثيرات النفعيين والمترفين. . كل هذه الأمور لها دورها المهم في تحويل الأمور النسبية إلى مطلقات. فالقبيلة، والنسب، وأمثالها أمور نسبية قد تكون طبيعية في حدود معقولة، أما الخط كله فيكمن فيما لو حاول الإنسان أن يصعد بهذه الأمور إلى مستوى المطلقات والمعايير العامة، فحينئذ تكون الكارثة، وعندئذ تكون الطائفية قد تجلت بأبشع صورها وأخس أشكالها.. وحينئذ يتحول النسبي النافع إلى قيد على الذهن الإنساني يمنعه من الانطلاق الحضاري البناء، باعتبار بأن هذا النسبي يرتبط بظروفه الموضوعية، فإذا جعل مطلقا لم يمكن للإنسان أن يتخطى هذه الظروف وحينئذ فالجمود والانحطاط المقيت.


 


إذن فنحن عندما ندين الطائفية وندعو إلى نبذها من الصعيدين الفردي والاجتماعي ، لا نقصد مطلقا: أن يتنازل الفرد أو المجتمع عن عقيدته وإيمانه، أو ألا يميل عاطفيا إلى قومه أو طائفته أو وطنه أو حزبه الذي يشترك معه في هدفه الاجتماعي وأمثال ذلك. كما لا نقصد ألا يدافع عن مبادئه التي آمن بها بقوة ولا يعلن رأيه بكل صراحة، وألا يعمل على تقوية الخط الذي يؤمن به بالسبل الإيجابية الحصيفة. وإنما الذي نعنيه -ويعنيه كل من ينطلق لإدانة هذه الصفة- من أسباب موضوعية إنسانية تتلخص في رفض كانحياز غير موضوعي إلى عقيدة أو طائفة أو وطن أو قومية أو حزب أو غير ذلك، وكل ابتعاد عن المنطق السليم ، والحوار الحر البناء، ومنع الآخرين من إبداء آرائهم بكل حرية، ومنع ذوي الاختصاص من مناقشة فكرة ما والوصول فيها إلى صخرة الواقع ولب الحقيقة.


وكذلك نقصد كل عمل لئيم على الاحتلال المراكز وملئها بالعناصر الموالية دون لحظ كفاءتها وآثارها السلبية على الدائرة التي ستتسلط عليها ومدى خدمتها في ذلك للهدف المعلن، وكذلك مدى التزامها الخط الأصيل. ونعتقد أيضا -فيما نقصد- إدانة كل المواقف التي لا داعي إنساني لها سوى نصرة هذا العنصر أو هذه الطائفة، بل وحتى لو كانت هذه في خط معاد للقواعد الإنسانية والأسس الفطرية للعدالة.وأمامنا الكثير من الظواهر الطائفية والتعصبية نشاهدها على مختلف الصعد وهي تمتد في حياتنا البشرية من أعلى المستويات حتى تصل إلى التصرفات الشخصية.



والواقع أن التعددية المذهبية شكلت عنى واسعا للأمة وخيارات إسلامية للتطبيق أنها حينما تحولت في خطابها وتعاملها إلى طائفية عمياء جرت الويلات وسالت لأجلها أنهار الدماء والدموع. فعلى المخلصين اليوم أن يعيدوها إلى الحالة الطبيعية بعد أن يطهروا الخطاب الإسلامي منها. والله ولي التوفيق .


 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

author مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

انتباه! تم الكشف عن مانع الإعلانات!

يرجى تعطيل برنامج حظر الإعلانات أو وضع القائمة البيضاء لموقعنا على الويب.

تحديث طريقة الإيقاف

انتباه! تم الكشف عن مانع الإعلانات!

يرجى تعطيل برنامج حظر الإعلانات أو وضع القائمة البيضاء لموقعنا على الويب.

تحديث طريقة الإيقاف