الحرية الفكرية في الإسلام - مكتبة أهل الحق والإستقامة

Post Top Ad

Post Top Ad

الثلاثاء، 20 أبريل 2021

الحرية الفكرية في الإسلام

 الحرية الفكرية في الإسلام

00000


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد .....


فإن الإنسان ف المجتمع القديم عاش بلا حق أو حرية تجاه السلطة العامة وظل كذلك حتى جاء الإسلام في القرن السابع الميلادي وعملت الشريعة الإسلامية على إقامة المجتمع الفاضل ، فقد كرم الإنسان واعترف بحقوقه وحرياته الأساسية .


 


وعل أثر التغيرات التي طرأت على البلاد الإسلامية بعد أن اتسعت رقعتها تعارضت المصالح ، وازداد الجدل والنقاش في أمور خرجت بالناس عن التعاليم الدينية السليمة ، الأمر الذي أدى إلى غلق أبواب الاجتهاد وحرية إبداء الرأي .


 


فالإسلام إذن أعطى للحرية مفهوما مغايرا للمفاهيم التي كانت سائدة في الأزمنة السابقة، فالشريعة الإسلامية منذ ظهورها اعترفت بحقوق الإنسان ، وبحرياته الأساسية وكان ذلك في وقت لم يكن فيه للإنسان حق ولا حرية للعقل .


والسبب في ذلك أن مبدأ الحرية وثيق الارتباط بالعقيدة نفسها ويستمد مكانته من مكانة الإنسان وتكريم الله له ، ولم تكتف الشريعة الإسلامية بالعمل على التحرر من العبودية لغير الله ، وحفظ حرية الناس والمنع من عدوان الناس على بعضهم البعض وإنما أيضا عملت على تحقيق العدالة الاجتماعية ، وفتح باب الاجتهاد والرأي .


وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على رفعة الإسلام وسموه على بقية النظم والقوانين الوضعية التي تصوغها البشرية ذات العقل القاصر ، فالإسلام لم يشرع شيئا ثم يتراجع عنه لأنه وجد البديل الأفضل مثلما نجد في القوانين الوضعية بل نؤمن ونوقن بأن الإسلام أتى بما يتناسب مع فطرة الإنسان وقدراته في أي زمان ومكان .


 


وتتناول هذه العجالة عدة محاور :


 


  مفهوم الحرية .


                  الحرية في الديانات السابقة.


                 الإسلام يكفل الحريات العامة .


                 مفهوم الحرية في الإسلام .


 


 ( الحرية كفكرة ) 


 


 لعل من أهم المسائل التي شغلت اهتمام المفكرين عامة والفلاسفة خاصة عبر التاريخ الإنساني كله هي مشكلة الحرية ، ولذلك نجد الفلاسفة على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم يتناولون هذه المشكلة بشكل أو بآخر من ثنايا حديثهم عن مشكلات الفلسفة ذاتها .


وقد اختلفت آراء الفلاسفة حول موضوع الحرية ، فمنهم من أنكرها ونادى أن الإنسان إنما يخضع في كل حياته وتصرفاته للجبرية المحضة التي فرضت عليه دون أن يكون باستطاعته الإفلات من قبضتها ، إذ الجبرية هي التي تحدد أفعاله وتوجه سلوكه ، ومن أنصار هذا الاتجاه ( أسبينوزا ) الذي يرى أن الناس يقعون في الخطأ حين يعتقدون أنهم أحرار.


 


وتاريخ الفكر الإنساني لا يتفتح لنا فقط من خلال صور عديدة من صور الحرية ، وإنما يكشف لنا أيضا عما يقابل هذه الصور من صور الحتمية ، ولهذا يتعين على كل باحث مدقق في معالجة مشكلة الحرية أن يدرك ما يقابلها ، وأن يخوض غمار مشكلة الحتمية أيضا ، وهنا سيجد أن الجبرية تختص بالسلوك الإنساني بينما الحتمية مقولة عامة يخضع لها الإنسان والطبيعة على حد سواء ، الواقع أن حياتنا العملية اليومية وما يسودها من قوانين وضعية وإلهية ، إنما تفترض أن  الإنسان حرا في أفعاله ، حرية يكون الفرد فيها مسؤولا عما ينجم عنها من نتائج ، إذا المسؤولية مرتبطة بالحرية وجودا وعدما 


 


 


مفهوم الحرية 


 لو تساءلنا عن معنى الحرية لوجدناها تعني بوجه عام فكرة انعدام القسر  أو بعبارة أدق فإن الحرية تعني ( قدرتنا على اختيار الفعل عن روية مع استطاعتنا رفض القيام به ).


وبديهي أن هذا الاختيار يتصل بقدرة الفاعل وإمكانياته ... وعلى هذا النحو فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا من خصائص الحرية هو الجانب السلبي منها ألا وهو قدرتنا على الرفض والوقوف أمام الموانع والعقبات التي تقيد اختيارنا الحر سواء كان هذا الأمر من جانب الأفراد الآخرين أو من سواهم .


 


ومن هذا المنطلق يتضح الجانب الايجابي للحرية وهو ذلك الجانب الذي يجعل الإنسان حرا بالمدى الذي يستطيع معه أن يختار أهدافه الخاصة أو مسار سلوكه فيكون قادرا على اختيار ممكن واحد من بين إمكانيات الفعل المتاحة له وهنا لا نكون مكرهين على القيام بفعل ما كما لا يكون ثمة عائق يعترض اختيارنا من قبل إرادة شخص آخر أو أية سلطة أخرى .


 


 


مفهوم الحرية في الديانات السابقة 


 يا ترى كيف تعاملت الديانات مع مفهوم الحرية ؟؟؟


وما هي الأسس التي انطلقت منها لصياغة معنى الحرية ؟؟؟


 


نجد أن الطبقات في الهندوسية نصت على أن الملك إله في صورة إنسان فوق الأرض وإن كان طفلا رضيعا ، وألزمت طبقات الشعب أن تقدم له أعمق الإجلال ، ولم تدع الحرية لأحد من هذه الطبقات أن ينقده أو يعلق على تصرفاته .


 


وقد جاء في شرائع (منو) ما يأمر الملك به من صب زيت حار في فم الشودرا وفي أذنيه إذا ما بلغ من الوقاحة ما يبدي به رأيا للبراهمة في أمور وظائفهم .


وحرمت الديانة اليهودية على الشعب اليهودي مناقشة الأحبار والكتبة والقديسين .


وفي المسيحية سرعان ما استولت الكنيسة على مقاليد السلطة واستغلت الشعب المسيحي أسوأ استغلال مما أدى إلى وجود طوائف خارجة عن الكنيسة ، ولما شعرت الكنيسة بوجود المفكرين الذين خرجوا عما رسمته من قواعد وأصول رأت في ذلك ما يهدد سلطانها ويضعف مركزها أمام تيار الفكر الحديث والعلم الآخذ في النماء .


 


فحاولت تكميم الأفواه البريئة ، وتعطيل الأفكار الحرة التي تناقض نظرياتها ، ومن هنا كان العداء شنيعا بين الكنيسة وحرية الفكر منذ لك الحين ، فأصدرت قرارات بتحريم قراءة حوالي ( خمسة آلاف كتاب ) من بينها كتاب ( جان جالك روسو ) و ( ديكارت ) و ( فيكتور) و ( هوجو ) وغيرهم .


وعندما ظهر القول بكروية الأرض – ذلك الأمر الذي عرفه المسلمون وصار رأيا لهم منذ أول خلافة بني العباس – أحدث اضطرابا شديدا في عالم النصرانية وهددت الكنيسة من يقول به 


 


 


الإسلام يكفل الحريات العامة 


 جاء الإسلام واعتبر الحرية من أهم الحقوق الإنسانية  فحرية الفرد مرتبطة بحياته وهي حاجة ملحة للإنسان ، والإنسان الذي يفقد حريته يفقد ذاته ، وبالتالي فهو مكبل بالأغلال وشعوره بهذا التضييق يشعره بالمهانة والذل ، ويحد من طاقته ونشاطه ولهذا فإن من أولى ثمرات الحرية تشجيع الطاقات البشرية الكامنة وتفجير القدرات التي لا يمكن أن تؤتي ثمارها المرجوة إلا في ظل حرية باعثة على العمل والجهد والإنتاج .


 


ومن الصعب أن نفصل أنواع الحريات عن بعضها ، فالحرية صفة لا تقبل التجزئة ، وهي تدفع الفرد للاعتماد على ذاته والثقة بتصرفاته ، وافتقاد الحرية يورث الجبن والخوف ، لأن الفرد المكبل بالأغلال لا يجد في نفسه الشجاعة على مواجهة المواقف الحاسمة ، وربما يدفعه الخوف من الفشل إلى التردد وهو بالتالي إنسان غير منتج 


 


 


ما معنى الحرية في الإسلام ؟


في الإجابة عن هذا السؤال نلجأ إلى اقتباسات من القرآن الكريم توضح بما لا يدع مجالا للشك تقدير الإسلام للحرية في كل مجالاتها .


فعن حرية الفكر نجد الإسلام يحث الناس على التفكر والعلم والتدبر والعمق . قال تعالى :


 


  ( أفم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) .


- ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ).


- ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ).


- ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ) 


 


وقال صلى الله عليه وسلم :  ( الدين هو العقل ، ولا دين لمن لا عقل له ).


وقال عليه الصلاة والسلام :  ( فقيه واحد أفضل عند الله من ألف عابد ).


 


فنجد أن الإسلام حرر شخصية المؤمن من الوقوع تحت تأثير الطاغوت ( أي الطغيان بغير حق ) والطغيان أيا كان لونه ، وأيا كان مصدره ، يعتبر خطرا على شخصية الإنسان .


 


وقد أكد الإمام محمد عبده على حرية الإرادة الإنسانية ودلل عليها بأن العقل والوجدان والإجماع يثبتون هذا كما أكد على أن فكرة القضاء والقدر ليست عائقا لتصرفات الإنسان حيث فسر القضاء بمعرفة إلهية .


 


ومن ناحية أخرى رأى الإسلام أن حرية الإنسان ليست مطلقة ويتضح هذا من كتاباته عن الغاية من هذه الحرية (  فالحرية بالنسبة للفرد مرتبطة بحرية المجموع ، وحرية الفرد من خلال واجباته أو وظائف يؤديها للمجتمع ، وعامة الناس أضفى هذا الطابع الأخلاقي على الحرية بما يحد من إطلاقها  ) ، كما أكد على ارتباط الحرية بالوطنية .


وقد نعى على من يتخذون حرية الفكر كأساس لتقليد الحضارة الغربية والأخذ بقشورها مع نبذ القيم المتوارثة والتراث ، وقد أطلق عليها  الحرية البتراء فتلك الحرية التي سموها إطلاق الفكر قد عتقت صاحبها من قيد العقل ، وأسلمته إلى الجهل الأعمى ، واستمر بنا الأخذ بالنهايات الزائدة قبل البدايات الواجبة أن تموت فينا أخلاقنا وعاداتنا  )


ومن المؤسف أننا في العصر الذي نسميه عص الحريات نجد أن الحرية لم تنتكس في عصر من عصور التخلف كما تنتكس اليوم ، ولم يكن الإنسان رخيص الثمن عديم الإرادة ، كما هو شأننا في الإنسان المعاصر .


 


 


المحور الثاني : الحرية الفكرية في الإسلام 


 - حرية الفكر في الأمور الدينية .


- حرية إبداء الرأي والاجتهاد .


- أثر الحرية الفكرية في إنتاج حية علمية مزدهرة .


- الحرية بين الشورى والديمقراطية 


 


 


حرية الفكر في الأمور الدينية 


أقر الإسلام للإنسان الحق في حرية العقيدة ، لأنها تعد أصلا في هذا الدين ، وتطبيقاتها كثيرة في الحضارة الإسلامية ، فأبو يوسف يذكر في كتاب الخراج ما جاء في كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل نجران  ( ولنجران وحاشيتها جوار الله ، وذمة محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أموالهم وملتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير  )  ففي قوله عليه الصلاة والسلام ( وملتهم وبيعهم ) ما يؤكد على حرية العقيدة والإنسان .


 


بالإضافة إلى ذلك فالإسلام أقر حرية العقيدة بالرغم من يقين صدق العقيد الإسلامية ، ومع هذا فالإنسان لا يمكن أن يؤمن بعل غيره ، وبإرادة غيره ، ولا بد من أن يجد في نفسه قناعة وجدانية تدفعه لسلوك معين يدل على الإيمان ، ولهذا فإن مهمة الرسل قاصرة على البيان والإرشاد دون الإكراه والاضطهاد .


 


فإذا كان الإسلام قد جاء بالنصوص الشرعية الثابتة في القرآن والسنة فلأن هذه النصوص تمثل المنطلقات التي يستطيع الفكر أن ينطلق من خلالها في مسارات سليمة تبعد صاحبها عن الزيغ والضلال ، ومع هذا فهناك حرية واسعة في مجال النص الشرعي ، وهو ما يعبر عنه بالاجتهاد ، ويعتبر الاجتهاد مصدرا هاما من مصادر التشريع الإسلامي .


 وعن حرية التدين يقول الله تعالى 


 -( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ).


-( لكم دينكم ولي دين ).


-( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ).


-( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ).


-( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا  ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) .


-( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ).


 


ويقول ( لان بول ) 


( إنه في الوقت الذي كان التعصب الديني قد بلغ مداه جاء الإسلام ليهتف ( لكم دينكم ولي دين ) وكانت هذه مفاجأة للمجتمع البشري الذي لم يكن يعرف حرية التدين وربما لم يعرفها حتى الآن ، وسار محمد صلى الله عليه وسلم على هذا المنووال مسيرة لم تعرف التردد .


 ويقول ( سنكس الفرنسي ) 


( إن السلام خلص الإنسان من الوثنية ، وعبادة الإنسان والأشجار والأنهار ، ودفعه أن يراجع نفسه ليتعرف على خالق الحقيقي .


 وفي هذا المعنى يقول اللورد هيدلي 


( إنني أعتقد أن هناك آلافا عديدة من الرجال والنساء والنساء مسلمون لأن الطبيعة السليمة هي الإسلام ).


 


 


حرية إبداء الرأي والاجتهاد :


 ومن الحريات التي أباحها الإسلام أيضا حرية إبداء الرأي والاجتهاد في أمور الدين ، والفهم واجب على المسلم في الأخذ من جميع هذه المصادر والعمل بها ، فلا تعارض بين النص والاجتهاد في وجوب الفهم في كل منها ، لأن المسلم بعدما تلقاه من الأوامر الإلهية التي توجب عليه التفكير والتدبير والاحتكام إلى العقل والبصيرة .


 


فالإسلام أتاح المناخ الفكري الحر الذي مكن العلماء وأصحاب الفكر من الإسهام في إثراء الحضارة الإسلامية في كافة أنحاء مجالاتها ، ود قدم المسلمون عربهم وعجمهم ما بهر العالم من إنتاج فكري كان نواة للعلوم الحديثة ، كما كان مقدمة لنهضة أدبية كبرى تشهد بها آدابهم وما فتحوه للعالم من مجالات مبتكرة اعتمد عليها العالم الحديث بشكل مباشر ، ففنون العرب في اللغة والتاريخ والجغرافيا والأدب تظهر آثارها بشكل واضح وملموس فيما لحقها من تراث إنساني .


 


وهذا الحق أكد عليه القرآن الكريم بدعوته إلى التفكر والمشاركة فيه ...قال تعالى ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ) 


 


وقد شجع النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه في كل مناسبة على إبداء الرأي ، وتقديم المشورة ، وفتح المجتمع الإسلامي أبوابه للباحثين الذين لجأوا إليه من دول أخرى ، وكان كل مضطهد في بلده يجد في أرض الإسلام ملجأ وملاذا .


كما شجع الرسول عليه الصلاة والسلام على المشاركة بالرأي حتى في التخطيط الحربي كما حدث في غزوتي بدر والخندق ،  ويعتبر الاجتهاد مظهر من مظاهر الحرية الفكرية في الإسلام 


 


اقرا ايضا :الأنا والآخر

 قد يعتقد البعض أن اختلاف الصحابة ظاهرة ليست مرضية ، وقد يفترض آخرون أن الصحابة الذين تربوا على يدي الرسول الكريم وتلقوا منه القرآن وتعلموا منه منهج الاستدلال ، كان ينبغي لهم ألا يختلفوا في اجتهاداتهم ، وألا تتباين آراءهم ، وهذا الادعاء ليس صحيحا ، لأن اختلاف الصحابة كان ظاهرة صحية تدل على انعدام ظاهرة التقليد ، فكل فرد منهم كان يبدي رأيه في المسألة المعروضة عليه دون أن يخشى معارضة ، أو يجامل فيما يعتقد أنه الصواب وبخاصة إذا أدركنا أن مدارك الناس متفاوتة ، ودلالات الألفاظ متعددة كل فرد من الناس مكلف بمقتضى عقله ، وهو معذور في اجتهاده ولو كان فيه مخطئا .


 


وكان الاجتهاد إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يتسم بطابع الشورى ، فكان الخلفاء الأول يجمعون الصحابة في الحوادث الطارئة الهامة من حقوقية وسياسية ويستشيرونهم في الحلول الشرعية والسياسية لها ، وفقا للتوجه القرآني إلى الشورى التي وردت فيه مطلقة شاملة لجميع الأمور .


 


ثم بعد ذلك أصبح الاجتهاد في العصور التالية يتسم بطابع الفردية ، فكان كل مجتهد يستقل برأيه وفهمه في اجتهاده ، لتفرق الصحابة ومن بعدهم في الأقطار مما يصعب معه اجتماعهم وتشاورهم .


 


والاجتهاد الفردي قد عاد بالخير الكثير على هذه الأمة لأنه قد جند العزائم لحراثة أرض الشريعة واستنباتها ، وتبارى أساطين العلم في استنباط القواعد ...فقد كان من الواجب عدم تحريم الاجتهاد ولكن تنظيمه ، فقد كثر المتاجرون بالدين ،وكثر إصدار الفتاوى التي كثيرا ما تخدم غير المسلمين تحت مظلة الاجتهاد  .


 


 


أثر الحرية الفكرية في إنتاج حياة علمية مزدهرة 


وبفضل الحرية الفكرية التي أتاحها الإسلام فإننا نجد المساجد الإسلامية عمرت بجلسات العلم وحلقات الدرس ، ورتب الخلفاء الرواتب والأرزاق للعلماء وطلاب العلم ، وازدهرت جامعات الإسلام في مساجده الجامعة ، فكان جامع المدينة مركزا من أهم مراكز الإشعاع الفكري والثقافي ، وعلى غراره قامت مساجد المسلمين في حواضرهم فكان جامع عمرو ، وكان المسجد الأموي ، ومساجد العراق ، وما أقيم في الشمال الأفريقي ، والمشرق الإسلامي والأندلس وكلها منابر تنشر الإسلام والعلوم الإسلامية ، وتعلم المسلمين ، وتؤصل الثقافة الإسلامية وترسي جذورها .


 


والحرية الفردية سواء في التفكير ، أو في السياسة ، أو في المال كانت من الآثار الهامة التي ترتبت على نجاح عصر النهضة الأوربية وهي تعتبر بحق رد فعل لأوضاع القرون الوسطى في هذه المجالات الثلاثة .


 


وهذه الحرية الفردية ، وأهمية الاحتفاظ بها ، والعناية بأمرها هي التي حملت على قيام الثورات في أوربا وأمريكا الشمالية بعد ذلك ، وهي التي بقيت هدفا لتلك الثورات ، ومحورا تدور حوله حياة شعوبها بعد نجاحها .


 


ورد الفعل يصحبه عادة شيء من الغلو في استخدامه وتطبيقه ولذا نرى الحرية الفردية التي تمخضت عنها النهضة الأوربية وفعلت فعلها في الثورات التي بعدها – قد فرضت نفسها – على جميع جوانب الحياة في المجتمعات الأوربية والأمريكية التي تعرف الآن بالمجتمعات الغربية  .


 


 


ففي جانب التفكير 


 لم تقم حرية الفرد فيه عند حد خلق فلسفة تمجد الإنسان وتعتز بخالقيته ، وتطلب المحافظة على استقلاله على نحو ما تتجه الفلسفة المثالية التي سادت القرن الثامن عشر بل جد نوع آخر من الفلسفة ينكر الله ويطالب بمطاردة الدين وهو الفلسفة اللادينية ، وجد نوع ثالث يتجه إلى إلغاء اعتبار أي مذهب فكري لا يكون واقعيا يؤيده الحس ، وتسنده التجارب وهو ما يعنى بالفلسفة الحسية .


 


وهذا المذهب الحسي مع أنه نتيجة الحرية الفردية في التفكير فإنه مهد لتبرير الاستعمار الأوربي الذي ساد القرن التاسع عشر ثم لإحياء الشعوبية في السياسة الأوربية بالنسبة للمستعمرات والشعوب التي خضعت لولايتها .


 


وأصبح منطق الحرية الفردية الذي كان يحتم استقلال الإنسان ورفع الوصاية عنه في مواجهة الدين يبرر من جديد وجود الوصاية من الإنسان الأوربي على الإنسان الأفريقي أو الآسيوي لمنفعة خاصة .


 


فمذاهب الفكر الأكثر ذكرا في العصر الحاضر مذهب التطور ، ومذهب الوجودية أو مذاهبها المتعدد بمقاصدها وان اتحدت بعنوانها  .


 فليس موقف الإسلام الذي نريد أن نوضحه هو موقفه من هذه الأصول والمبادئ لأنها فطرية وتميزت بها طبيعة الإنسان ، ومن ثم لا يسع الإسلام إلا أن يقرها ويزكيها.


 


فالديمقراطية وهي حرية الأفراد والنظام الذي يقوم عليها لحفظها وتمكين الأفراد من ممارستها يقف منها الإسلام موقف التأييد .


ولكن ما قد تؤول إليه هذه الحرية الفردية ، أو ما قد يؤول إليه هذا النظام عندما ينحرف به الإنسان في التطبيق والممارسة .والنظام الديمقراطي إذا انحرف في تطبيق الحرية الفردية في أي مجال من المجالات التي يمارس فيها الأفراد حرياتهم وهي مجالات الفكر والسياسة والمال ، وصار وضعه إلى ما يسمى بالرأسمالية تكون أصوله قد توقفت وجمدت ، وحلت محله دكتاتورية قوية طاغية وهي دكتاتورية رأس المال .


 


فما الذي يمنع المسلم أن يعمل للديمقراطية أو يعمل للاشتراكية أو يعمل للوحدة العالمية ؟ وما الذي يمنع المسلم من أحكام دينه أن يقبل مذهب التطور أو يقبل الوجودية في صورتها المثلى ؟


 


إن المسلم أحق بالديمقراطية من أتباعها المحدثين والأقدمين لأنه منذ أربعة عشر قرنا يدين بمبادئ الديمقراطية الأولى التي لا يصدق اسم الديمقراطية على نظام من النظم بغيرها ، وهي التبعية الفردية ، والحكم بالشورى ، والمساواة بين الحقوق والمحاسبة بالقانون    ( كل امرئ بما كسب رهين ) (  وأمرهم شورى بينهم  )


 


 وليس على الحرية الفكرية أن تدحض زعم الزاعمين بوجود الفرد وبطلان وجود النوع في الحس والعيان ، فهذا كله لا طائل تحته في النتيجة التي يخرج بها الوجوديون من تلك المقدمة ، وإنما نتيجتها أن الفرد مسؤول وأنه صاحب الحق الواجب على قدر هذه المسؤولية ، وأنه خليق ألا يدين لسلطان غير سلطان الضمير لأنه يحاسب على أعماله ونياته ولا يغني عنه أمر الجماعة ولا أمر ذوي السلطان ، وذلك هو حق العقل في الإسلام ، بل هو فيه واجب العقل لا يغنيه أن يعتذر منه بطاعة السلف أو طاعة الجماعة أو طاعة الرؤساء والأحبار ، وهذا الواجب بفضل العقيدة الإسلامية قبل أن يصل إليه من طريق الجدل العقام في التفرقة بين وجود الذوات ووجود الماهيات .


 


وباستقراء الواقع فيما مضى وما حضر نتبين أن الإسلام قد قال هذه الكلمة السواء في عهود كثيرة .وأنه كان في تلك العهود مذهبا فكريا وزيادة لأنه لم يقرر أصلا من أصوله يحجر على العقل في تفكيره ، ولأن الجانب الذي وكله إلى الإيمان من روح الإنسان هو الجانب الذي لا يستطيع الفكر أن يقول كلمة أولى بالإتباع من كلمة الدين .


 


 


الحرية بين الشورى والديمقراطية  :


لقد فطر الله الإنسان على الحرية ، فالحرية فطرة في الطبيعة الإنسانية ، فالله تعالى خلق الإنسان حرا ، لأنه جعله مسؤول عن تنفيذ منهجه في الأرض ، فالإنسان حر لأنه مسؤول، فالحرية تستتبع المسؤولية ، والمسؤولية تستلزم الحرية ، فنشاط الإنسان المسلم كله حر ، وهو كله عبادة لله ، طالما كان هذا النشاط حركة واحدة موجهة نحو هذه الغاية .


 


إن مفهوم الشورى في الإسلام هو أحد العوامل المنظمة لحركة الإنسان الحرة في الحياة ، ولقد احتدم النقاش بين كتابنا الإسلاميين منذ زمن طويل حول أوجه الشبه والخلاف بين مصطلح الشورى في النظام الإسلامي ومصطلح الديمقراطية في النظام الغربي الحالي ، وكان الصراع بين كثرة – في حالة دفاع عن النفس – يحاولون أن يوجدوا لكل عنوان براق في الحياة الغربية مثيلا في الإسلام عن طريق عقد مقارنات شكلية لا تبدأ من الأصول والبنى التحتية التي تقوم عليه النظريات الحضارية ومصطلحاتها الخاصة ، وغالبية هذا الفريق من المثقفين في العالم الإسلامي الذين يعيشون في إطار المنظومة الحضارية الغربية ، وداخل مصطلحاتها ، ولا يتصورون أن يتم العيش إلا بما نشأوا عليه  .


 


 وتأكيدا على هذا الكلام فإن القول بأن الديمقراطية في النظام الغربي هي الشورى في النظام الإسلامي أو أنه من الممكن  استخدام مصطلح ديمقراطية بإضافته إلى الإسلام كأن نقول ديمقراطية الإسلام ... فهذا يعتبر تسطيحا شديدا للموضوع ، وتعميما غامضا يحتاج إلى مقارنة موضوعية شاملة للأصول والبنى التحتية للنظم وكل جزئياتها لأنه يقطع المصطلح الحضاري من نظامه ويضعه بمقابلة مصطلح حضاري آخر دون اعتبار لأصول النظام في كل منهما ودون الإلتفات إلى دراسة الجزئيات المترابطة التي يجمع بينها منطق واحد داخل كل نظام  .


 


 لذلك فالإنسان لم يجد كرامته وسعادته كما وجدها في الحضارة العربية الإسلامية ، وذلك لأن هذه الحرة هي حضارة الإنسان بحق ، فليست حضارة الشعب المختار ، ولا حضارة الإنسان الإله ، ولا حضارة الكهنة ، ولا حضارة الرعاع ، ولا حضارة الإنسان الأبيض ، ولا حضارة أصحاب الدماء الزرقاء ، ولقد عاشت البشرية قبل الحضارة الإسلامية في مأساة معقدة ، فلم تعرف معنى الكرامة الإنسانية ، ولا معنى المساواة 


 


وجاء الإسلام لينقذ الإنسانية من قيود الطبقية والتمييز العنصري ، وجاء هذا الإعلان في أبلغ صيغة عرفها تاريخ الإنسان – حيث قال الله تعالى – ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ولم تقف الحضارة الإسلامية عند الشعارات والإعلانات كما تفعل المنظمات الدولية التي طالما نادت بحقوق الإنسان ، بل نفذت هذه الحضارة شعاراتها وإعلاناتها ، وحققت المساواة الإنسانية في أرفع صورها ، وأعطت الإنسان حقوقه كاملة غير منقوصة 


 


 


المراجع 


 1- د. إبراهيم زيد الكيلاني وآخرون ، دراسات في الفكر العربي الإسلامي ، الطبعة السادسة ، 1996 ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع .


 


2- د. أحمد خليل ، قضايا معاصرة ، الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م ، مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع .


 


3- د. أحمد شلبي ، مقارنة الأديان ، ج3 ، الطبعة الحادية عشر ، 1996م ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة .


 


4- د. حسن إبراهيم ، النظم الإسلامية ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة .


 


5- د. عباس محمود العقاد ، التفكير فريضة إسلامية ، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة 


   6- د. علي أحمد مدكور ، منهج التربية في التصور الإسلامي ، 1411هـ - 1990م، دار النهضة العربية ، بيروت .


 


7- د. فتحية النبراوي ، النظم والحضارة الإسلامية ، دار الفكر العربي.


 


8- د. محمد البهي ، الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر ، الطبعة الثالثة ، 1402هـ- 1982م، مكتبة وهبة للنشر والتوزيع ، مصر ، القاهرة .


 


9- د. محمد عزيز نظمي سالم ، الفكر السياسي والحكم في الإسلام ، مؤسسات شباب الجامعة ، مصر ، الإسكندرية.


 


10- محمد فاروق النبهاني ، المدخل للتشريع الإسلامي ، مؤسسة شباب الجامعة ، مصر، القاهرة .


 


11- د. محمد المنسي ، دراسات في الفكر العربي الإسلامي ، الطبعة الأولى 1991م ، دار ومكتبة الكندي ، الأردن 



والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

تواصل معنا

أكثر من 600,000+ يتابعون موقعنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي إنظم إلينا الآن

عن الموقع

.com/img/a/ مكتبة أهل الحق والإستقامة <<   مكتبة أهل الحق والإستقامة..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تاريخ...الخ) عند المذهب الإباضية من نتاج فكري.

أعرف أكثر ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

انتباه! تم الكشف عن مانع الإعلانات!

يرجى تعطيل برنامج حظر الإعلانات أو وضع القائمة البيضاء لموقعنا على الويب.

تحديث طريقة الإيقاف

انتباه! تم الكشف عن مانع الإعلانات!

يرجى تعطيل برنامج حظر الإعلانات أو وضع القائمة البيضاء لموقعنا على الويب.

تحديث طريقة الإيقاف