(الإصلاح) .. ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون)
صار تعاطي مفردات(الإ صلاح) أمرا مألوفا في أدبيات الحقبة الحالية، ومطية يركبها من شاء ومن أبى، ذلك أن (الإصلاح) - أيا كان- مطلب ملح لأي تجمع إنساني، وضرورة من ضرورات (التجديد) سواء كان قسريا كشكل من أشكال الحياة والنمو، أو اختياريا يعمل الإنسان بكسبه على تحقيقه ويسعى من أجله.
ولا يمكن تصور حياة حقيقية دون وجود (إصلاح).. ففي بنية الإنسان (تجدد( دائم على مستوى الخلايا وفي زمن يقاس بأجزاء الثانية، وقل الأمر ذاته في المجرات الهائلة الحجم والتي تتجدد وتتوسع مصداقا لقول الله سبحانه: { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} مرورا بالحيوان والنبات وأشكال الحياة الأخرى في الأرض والبحر والجو.
وفي الحياة العملية اليومية يمارس الإنسان (الإصلاح) بأشكال متفاوتة، فالتاجر الذي يذهب لمتجره في الصباح الباكر ويرتب (دكانه) وينظفه لاستقبال زبائنه يمارس نوعا من الإصلاح، فلو لو يفعل ذلك لهجره رواده، كما أن الأذكى منه من التجار يمارس (إصلاحات) دورية في تجارته لكي يصل إلى مبتغاه من الربح والرفاه وطيب العيش.. وقس الأمر ذاته في بقية المهن والوظائف.
فـ (الإصلاح) بهذا المفهوم شأن (عادي ) في حياة البشر، ويمارسه الناس بشكل روتيني ولو لم يعوا ذلك، ومع ذلك فهو أمر مهم توما من أمة إلا وتسعى إلى البقاء والاستمرارية، ولو كان قلم القدر بيدها ما كتبت الفناء لنفسها، ولا السقوط لحضارتها، ولا الدمار لشعبها.. فحب الحياة والتمسك بها غريزة إنسانية بل غريزة يجتمع مع الإنسان فيها الحيوان الأعجم..
فكيف إن كان (الإصلاح) أمرا إلهيا، نستقيه من شريعتنا الإسلامية، ونتعلم مبادئه من الوحي المعصوم..؟ ؟
وكيف إن كان (الإصلاح) شأنا له أسسه وقوانينه فيما بيننا، ونفعله لا روتينا بل عبادة نعي مراميها ونفهم مقاصدها وندرك أبعادها ؟؟
لقد وردت مادة )صلح) في القرآن الكريم 170 مرة، كلها في معرض الحث على الصلاح والإصلاح، وتنهى عن الفساد والإفساد، وتقر حقيقة أن المصلح هو الأقدر على البقاء في الأرض وعمارتها.. نسوق من ذلك بعض النصوص:
يقول الله تعالى:
(وَلاَ تُفْسِدُوا ْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}الأعراف :85
(إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَح َ مَا اسْتَطَعْت ُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت ُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}هو د: 88
-(فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُوا ْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِين َ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهاَ مُصْلِحُون َ} هود:117
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ألزبور مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُ ونَ} الأنبياء:51
- (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُون َ عَلِيمٌ} المؤمنون:51
(وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِف ِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُون َ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُون َ}الشعراء: 152
- (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُون َ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُون َ} النمل: 48
(وَإِن طَائِفَتَا نِ مِنَ الْمُؤْمِن ِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَ ا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُو ا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَ ا بِالْعَدْل ِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِط ِينَ} الحجرات: 9
إننا بهذا نكون - حقيقة- أمة تتميز عن غيرها.. ورائدة في مجال (الإصلاح) .. ما يؤكد أننا لسنا بحاجة إلى نماذج من (الإصلاح) تأتينا من هنا أو هنالك، أو أطروحات ونظريات (إصلاحية) يراد لها أن تستنبت فيما بيننا رضينا بتا أو لم نرض..!!ارتكز عليه نهضة الأمم والشعوب، وبقاء الحضارات واستمرارية ها، وهو القلب الذي يضخ الحياة إلى مناحي الحركة في أعمال الإنسان، فإن عطب أو اختل ترك آثاره السلبية على تلك الأعمال مما يجعلها تموت وتفنى، أو تفقد قوتها ولا يكون لها في معنى التأثير مسحة..
إننا نمارس (الإصلاح) ذاتيا، ونتعلمه ونحن في مسيرة الحياة بشكل طبيعي..
والأمم كذلك، تتعلم (الإصلاح) من خلال تجربتها الحضارية، وسيرورتها مع عوامل الزمن، وفي علاقاتها مع الأمم الأخرى..
لماذا (الإصلاح) الآن؟
ثمة جدل واسع بين الفئات السياسية والثقافية في مشهدنا العربي حول مسألة الإصلاح هذه، وخاصة بعد أن طرحتها معامل السلطة السياسية الأمريكية والأوروبية علنا على منابر كثيرة كرسالة تحذير إلى جميع الأنظمة والحكومات العربية، وخاصة بعد الإطاحة بنظام الحكم في العراق!
ذلك الجدل يجري على منحين اثنين:
الأول: يعتبر ما قالته تلك السلطة السياسية (أمريكا وأوروبا) كلمة حق أريد بها باطل. وأن المطالبة بذلك ما هي إلا ذريعة من أجل التدخل في خصوصيات الدول، ومحاولة تخويفها من تراكمات عدم الإصلاح!
وتقع بعض الأنظمة العربية في هذا المنحى، محاولة اللعب على الحبلين، مرة بتظاهرها بأنها في صف الإصلاح، ومع مطلب الشعوب، ومرة بأنها مع أمريكا وأن الإصلاح مطلبها هي أيضا!
الثاني: إن تلك المقولة هي المنقذ لنا من هذه النخب السلطوية) المتعفنة) على حد تعبير أحد الكتاب، وأن أمريكا هي من سيجلب لنا الخلاص! لسنا هنا بصدد مناقشة أي من الاتجاهين، لأن الأمر في النهاية لن يصل إلى نتيجة طالما أن كلا الفريقين على تمام الاتفاق بأننا نحتاج إلى (الإصلاح) فعلا، في واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي .
إلا أن ما أود قوله والتأكيد عليه، بأن وجود ) نية ) الإصلاح وحدها لا تكفي..
النية وحدها لا تكفي، بل لابد من وجود خطط فعلية وبرامج حية على الواقع من أجل الإصلاح.
إن النية الطيبة في القلوب لا تصنع وحدها أملا، ولا تحقق واقعا، ولا تبني حضارة.. وإن كان صاحبها مأجورا عند الله سبحانه..
إن طرح مشروع للإصلاح يعتمد على وقائع عملية شفافة يناقشها كل المعنيين بالأمر، ويشارك في صياغة بنودها كل من تقع عليه مسؤولية بناء أمته..
إن مشروع الإصلاح يقتضي الوعي التام من السياسيين والاقتصادي ين وأهل الاجتماع بما تقتضيه المسؤولية لكل منهم..
لابد من وجود قادة سياسيين على وعي بعملية الإصلاح وما تتطلبه في هذه المرحلة التي تمر بها الأمة.. تدرك معنى (السياسة) ومفرداتها، وكيفية التعامل معها في ظروف السلام والحرب، وبين زخم التناقضات الدولية والتنافس على الكلأ والمرعى كما كان في العصور القديمة، وهل كانت الحروب إلا على حطام دنيوي يزول!!
ولابد من وجود قادة ثقافيين على وعي بالإصلاح الثقافي، وبإدراك كامل بمعنى الثقافة ومستلزماتها، وأن الثقافة في أبسط مبادئها تقتضي (قبول) الطرف (الآخر) والتحاور معه، والاستفادة من كافة نقاط الالتقاء بين (الأنا) و (الآخر).. إن ثقافة إقصاء (الآخر) جزء من الفساد الذي لابد من إصلاحه في واقعنا الحالي، والذي يمارسه الكثير من المثقفين إسلاميين كانوا أم ليبراليين أم علمانيين.
ولابد من وجود قادة اقتصاديين على وعي بالإصلاح الاقتصادي، وأن اقتصاديات العالم لا تسير على نحو فردي بل ثمة تكتلات اقتصادية ضخمة تسير هذه البورصة أو تلك، وتتحكم بهذا السوق أو ذاك، وتخفض سعر هذا وترفع ذاك... وهو ما يدعو هؤلاء القادة إلى تأسيس جبهة اقتصادية ضخمة تستطيع بها مواجهة تلك التكتلات الكبيرة التي تحيط بها من أركانها الأربع..
مرت سنون كثيرة ونحن نحلم بالسوق الإسلامية المشتركة، أو السوق الخليجية المشتركة.. وتبدو الآن بعد مرور هذه السنوات الطويلة أقرب إلى خيال لا يلوح في الأفق شيء منه.. وأنى له أن يلوح بعد أن وعدت أمريكا –ضمن مشروعها الإصلاحي في بلداننا - بإقامة منطقة للتجارة الحرة في قلب الدول العربية..!
ولابد من وجود قادة اجتماعيين على وعي بالإصلاح الاجتماعي، وعلى وعي بأن الاختلاف والتفاوت بين الناس طبيعة بشرية، وسنة إلهية، ليعمل كل منهم على شاكلته، ولتتكامل جهودهم من أجل النهوض بالحضارة الأم، بل إن هذا الاختلاف ضرورة من ضرورات الاستمرار في عمارة الأرض، والبقاء فيها، مع إدراك أن الناس سواسية كأسنان المشط لا يتفاضلون إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهو مقياس لا يملكه – من حيث الباطن – معرفته إلا الله وحده.
ولو سأل سائل: إن جاء مطلب (الإصلاح) من أمريكا، فهل نقبله أم لا؟
لن أجيب على ذلك الآن! ولكني أستطيع القول:
إن عصا أمريكا الطويلة، وسياساتها غير الثابتة تجاه دول العالم، وتقلبات أمزجة حكامها وفق المراحل القصيرة، جعلت الكثير من دول العالم – وخاصة العربية والإسلامية - لا تثق فيها إلى حد (الخوف) منها.
إنه (خوف) ناجم عن عدم وضوح سياسات أمريكا تجاه غيرها..
و(خوف) مبرر تعكسه صورة مجنون أحمق يمسك بأداة قتالية لا حدود لها أمام جمع من العزل والضعفاء!!
و(خوف) من سياسة لا أخلاق في تعاملاتها، ولا مصداقية في وعودها، ولا أمن في جانبها، ولا ترع في الناس إلا ولا ذمة..
إنه (خوف) ..وليس الخوف سلبيا دائما..بل منه ما هو مطلوب وإيجابي..
ألا ترى كيف أن خوف الأب على أولاده يدفعه إلى الاهتمام بهم، ورعاية مصالحهم، والسهر في راحتهم..
وكيف أن خوف المفتي أوالفقيه يجعله أحرص على إرشاد الناس، وتوجيههم ورفع صور الظلم والعنت عنهم..
وكيف أن خوف الحاكم على شعبه ورعيته يجعله حكيما في التعاطي مع مفردات السياسة العالمية، لئلا يوقع شعبه في مشكلات هم في ألف غنى عن تبعاتها وآثارها.. وهلم جرا.
فهل خوفنا إذن يدفعنا إلى الإصلاح؟!
نعم، لأننا نريد الأفضل لأمتنا ومجتمعاتنا، وإلى إثبات شهودنا الحضاري الغائب.
أما أن يقرن ذلك بمطلب أمريكا، واعتباره امتدادا لمطلبها فهذا ما لا يمكن قبوله، ولابد من وضعه في سياقه العام ليُفهم:
إن أمريكا تقوم سياستها على استغلال ما هو موجود من أجل مصالحها، إنها تجيد هذا الفن إلى أبعد الحدود، وذلك عبر وزنها الدولي، وقوتها الحربية، وطرقها المألوفة في الضغط على الدول واللعب على أوراق معينة (لتخليص معاملاتها( !!
فغزو العراق للكويت كان فرصة للتدخل في سياسات دول الخليج بفرض صور الهيمنة عليها وعلى منابع النفط، وأحداث سبتمبر كانت شرارة أطلقت مبدأ الحروب الدفاعية التي تنتهجها أمريكا لزرع الرعب في قلوب الدول وحملها على قبول ما لا تريد.
وها هو مطلب (الإصلاح) الذي تنادي به الشعوب والحكومات على حد سواء، تأتي أمريكا لاستغلاله لصالحها..
تأتي أمريكا - لتلميع صورتها المشوهة - بأنها راعية مصالح البلاد والعباد..
وأنها تجلب الصلاح إلى مجتمعات فاسدة..
وأنها ترعى الديمقراطية الغائبة عن دولنا...
وهكذا نفهم القصة برمتها..
فهل تنطلي هذه الحيلة على بعضنا كما انطلت حيل قديمة) ..(إن المؤمن لا يلدغ من جحر
مرتين(!!
وإن علينا ونحن نتعامل مع قضايانا الخاصة أن نمضي فيها قدما دون الالتفات إلى ما يقال هنا
وهنالك..
ما دمنا على قناعة بما نقوم به، وعلى استعداد للتضحية من أجل قناعاتنا الفكرية فلا تستطيع قوة ما أن تقف في إرادة الشعوب ومطالبها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق