الأنا والآخر
نحن أمة تتشكل أفكارها على مصادر إلهية لا يتطرق إليها الوهن والضعف، وتقوم تصوراتها على معطيات عقدية ثابتة منذ قرون، حيث تجسدت في خلايا التكوين الفكري والنفسي عبر الزمن، وشكلت معها طريقتنا في التعاطي مع مفردات الواقع الذي نعيش فيه، مؤثرين أو متأثرين، وعبثا كل تلك الجهود التي حاولت تفكيك تلك البنية العقدية..
وتظل العلاقة بين (الأنا ) و(الآخر) محور الكثير من الثنائيات في حياتنا الفكرية والعملية، إنها حجر الأساس في تصورات الناس وثقافتهم، والقاعدة التي تنبثق منها كثير من المواقف الشخصية أو الأممية من قضايا التاريخ والواقع، وتشكل عنصرا لا يمكن إغفاله عند البحث في الثنائيات من قبيل: الحرب والسلم، الأخذ والرد، القبول والرفض... الخ.
وهذه العلاقة – محور حديثنا اليوم- قد تشكلت هي الأخرى كما بينا، عبر بنية عقدية لا تقبل التفكيك، وبالتالي فإن البحث في ماهية هذا التشكل ليس بذي أهمية، بل المهم في كيفية تنزيله إلى واقع البشر، وتلك هي وظيفة المؤمن كما يرسم ملامحها القرآن الكريم –كلمة الله للناس- : "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا"
إن (السمع) و (الطاعة) مفردتان تعبران عن تطبيق عملي لتلك الدعوة إلى الله ورسوله، وهكذا هي البنية العقدية التي تشكلت عليها شخصية الفرد في ظل تعاليم الإسلام..
وظهور سمات تلك البنية ليست عبر تصرفات الأفراد فحسب، وإنما هي مجموع التصرف الأممي في مسيرة التاريخ، والتي شارك في بيان ملامحها أجيال وأجيال سيما من (أهل الحل والعقد) كما تعورف على تسميتهم..
وبهذا المنطق العام يستطيع الفرد –وخاصة العالم الآخر- فهم مسيرة التاريخ البشري للأمة الإسلامية، وكيفية التعامل معهم، مهما كانت ظروف الزمن تشابكا و تعقيدا
وهذه رسالتنا- بلا رتوش - للعالم من حولنا، أن اعرفوا من نحن؟؟ ومن نكون؟؟ وكيف نفكر؟؟ وكيف نعيش؟؟ وما يهمكم أكثر: كيف نتعامل مع (الآخر) من خلال تلك البنية العقدية الثابتة؟؟
في القرآن المنزل على خاتم رسل الله بيان تفاصيل تعاملاتنا مع غيرنا، في حالات الحياة المختلفة، ومواقف الأمة تجاه من يتعاملون معهم، بيان واضح جلي، ولا يخفيه المسلم أو يخاف الإفصاح عنه، لأنها بالبساطة كلها (بنيته العقدية).
وليس من الإنصاف اقتحام سياج أمة دون معرفتها، والسؤال عنها، فهذا صنع اللصوص، الذين يدخلون خلسة، ويخشون كشف فعلتهم !!
ولكن : كيف قفزت إلى ذهن (الآخر) صورة ناقصة عن (آخره ) الذي يراه؟؟ أو هكذا أرادها هو بنفسه !! من يدري!!
ومع ذلك فمن حق التاريخ أن يعرف الجانب الآخر الذي يريد (الآخرون) عدم معرفته عنا، أو يحاولون صرف الأنظار عنه.
ذلك الجانب ، المنطلق أيضا من (البنية العقدية) ذاتها، لا يخطئ العين المنصفة أن تراه، والذي يتصف به المسلم في تعامله مع من يخالفه بل يعاديه!!
هو جانب الاعتدال في أمر الخلاف، والمتمثل في قول الله سبحانه:{ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ]
إننا وإياهم في حالة حرب.. نعم. بيد أن الحرب ذاتها لا يراد منها إبادة الآخر عن بكرة أبيه، بل مهمتها، حملهم على معرفة الحق بالقوة، ليبصروا النور الذي طالما عاشوا بعيدا عنه، فإن تحقق ذلك نكف أيدينا عنهم، بواجب ديني.
بل في خضم الحرب، وبين صولاتها وقرقعتها، نطالب بالاعتدال وعدم والتشنج، بالتواضع الإنساني لا بالجبروت والطغيان، بأخلاق ترفع المسلم لأرقى مراتب العلو والكمال.. أخلاقيات لم تتوصل البشرية بعد إلى صيغتها النهائية ناهيك عن العمل بمضمونها!!
تطالعنا صحائف التاريخ بنماذج من ذلك، لتكون أرسخ في ذهن من يريد معرفتنا، ودليلا على أننا أمة نطبق تعاليم ديننا، ولا نجعلها قراطيس نبدي منها ونخفي..
ويحضرني بين يدي الآن نموذج من واقع التاريخ الإسلامي في عمان، لشخصية كان لها حضورها المؤثر في المشهدين السياسي والعلمي، الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي (ت 1871م)
فبعد أحداث عسكرية دامية بين قوات الإمام عزان بن قيس وجيش السلطان تركي، انتهت بموت الإمام وسقوط الإمامة، بقي الشيخ الخليلي مرابطا لم يستسلم، وهو "العالم الذي كرس كل حياته لمعتقداته ومثله الإباضية العليا" كما يصفه الدكتور حسين غباش ص 232 من كتابه الفريد (عمان الديمقراطية الإسلامية. .) لقد ظل مقاوما وهو وابنه وجماعة في قلعة مسقط، وذهبت عبثا كل محاولات إقناعه بالاستسلام والنزول وخاصة ممن كانوا معه، طاعنا فيهم خيانتهم للإمام، إلا أنه- وهنا المفاجأة – قبل وساطة الكولونيل (بيللي) والميجر (واي) المقيم البريطاني في مسقط، وتم وفق ذلك عقد اتفاق بين الشيخ والسلطان تركي بوساطة المذكورين، وبالتالي فإن "كلمة بيلي وواي والتزامهما الأدبي هما اللذان جعلا الشيخ يقرر النزول من القلعة التي اعتصم فيها"ص233.
إلا أن "الاتفاق لم يلتزم به ولم يحترم" ص233، وانتهت تفاصيل المأساة بسجن الشيخ وابنه محمد في سجن الجلالي حيث أعلنت بعدها وفاة الاثنين في ظروف غامضة.
و"فتح الميجر واي تحقيقا رسميا، وتبين الوثائق الرسمية البريطانية أن الشيخ وابنه عوملا معاملة سيئة وضربا حتى الموت ثم دفنا في قلعة الميراني" ص 233.
"كان التبرير الرسمي للسلطة العمانية إن موت الخليلي وابنه نجم عن (الإسهال والخوف)، أما الميجر (واي) الذي عرف الحقيقة فقد صعق من هذا التبرير وتحسسا منه بمسؤوليته الأدبية لم يكن منه إلا أن وضع المسدس في رأسه وانتحر" ص234.
إن النموذج الذي بين يدينا يجمع بين صورتي (الأنا) و(الآخر) كما ينبغي أن تكون، لقد جسدت شخصية كل منهما القيم العليا التي ينبغي ظهورها في أحلك أوقات المحنة واشتدادها، في أعنف اللحظات العاصفة بالمرء، في عنفوان الرغبة النفسية بالقضاء على الخصم وإبادته..
كانت الحرب الطويلة لم يتبدد دخانها بعد، ولم يبرد ما في بنادقها من بارود، إلا أن ذلك كله لا يعني الخروج عن الإنسانيات والأخلاق، أو قطع خيوط الوصل بين (الأنا) و(الآخر) مهما كانت الأحوال.
لا يعني ذلك موافقتنا لـ(واي) بالانتحار، بل نوافقه على ذلك الإحساس الذي أحس به قبيل الإقدام على قتل نفسه، وذلك الإنصاف الذي ظهر منه تجاه (الآخر) الذي ظل يحاربه سنين طوالا .
وهذا الإنصاف والاعتدال ظهر في شخصيات أخرى في سياق الأحداث ذاتها، من أمثال (بادجر ) الذي أبدى إعجابه بالإمام عزان واصفا حنكته السياسية وشجاعته وجرأته، و(بيللي) الذي يقول واصفا الإمام عزان :" لقد عاش بطلا ومات بطلا"ص 236.
يذكرنا هذا بمشهد في فيلم (عمر المختار) حين أعدم البطل وحضر الضابط الإيطالي مشاهد تنفيذ الحكم، وبدأت الجماهير تغادر المكان، ظل هو متسمرا في مكانه، وتقديرا (لخصمه) اللدود خلع قبعته وضرب تحية عسكرية بكل إجلال وتواضع لتلك الهامة السامقة، المعلقة على أعواد المشنقة.
ما نود التأكيد عليه، أن (الآخر) مهما كان خلافنا معه، ومهما اتسعت الدوائر التي تبعد بين الاتصال والتواصل، إلا أن خيوط (الأخلاق) و(المثل العليا) تبقى رصيدا رفيعا لا يمحوه شيء، وخيطا خفيا يوصل بين الأطراف المتباعدة بحكم الزمن والأفكار، وعنصرا لا مرئيا في كيان (الإنسان) الحي ذي القلب النابض بالرحمة والشفقة والإحساس.
إن (الآخر) – السلبي إن جاز لنا التعبير- ليس نسخة مكررة، يستحضرها وعينا الداخلي كلما مر اسم أحدهم ونحن نسمع أو نقرأ أو نتحدث، نستحضرها بالزخم المملوء ظلما وجبروتا وعنادا، أو صلفا ومكرا وخبثا، بل في بعض هذا (الآخر) آخرون معتدلون، يعرفون الحقيقة ويقدرون أهلها، ويعرفون الحق ولو لم يؤمنوا به..
ألا تلحظ معي – أخي القارئ- ذلك في قراءتنا لقوله سبحانه: " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين" (المائدة) (82-83).
كما أن على (الآخر) أن يعلم أن (الأنا) ليست تلك الصور النمطية الخاطئة، والتي تصورها معامل الهوس الإعلامي، والتشويه المتعمد، أو الصورة المرسومة داخل الدوائر المغلقة المشبوهة، والتي غالبا ما تكون صورة ساذجة، سطحية جاهلة، تتسم الغباء المفرط، والثراء الكبير، لتتشكل في الوعي الداخلي أن هؤلاء أقوام (قاصرون) لا يعرفون إدارة شؤونهم، فلنكن أوصياء عليهم .. أليست هذه هي الرسالة التي يعكف عليها (برنارد لويس ) وأتباعه إيصالها للعالم الغربي مدة ما يزيد على نصف قرن!!
ومما يتفق عليه كثير من المراقبين أن الاستعلاء الأميركي اليوم على أمم الأرض ومنها المسلمون، يدفعها شعورها بالتفوق على الآخرين، وأنها الكاملة دون غيرها، وأن ما سواها (جرابيع) جهلة، ومخلوقات تافهة، فلنعلمهم (الديمقراطية)، ولنوصل لهم ثقافة (الانفتاح)
و(الحرية). .. وإن لم يستجيبوا (فالعبد يقرع بالعصا)!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق